رحيل عاصم حمدان.. وأشجان حارات مكة والمدينة
عرفته في بدايات القرن الهجري الحالي، بمكة المكرمة، وعبر كتاباته الأدبية والثقافية في "الأربعاء" بصحيفة المدينة المنورة.. وفي ترددنا على مجالس مكة العلمية والأدبية والاجتماعية.. ترافقنا في أسفار داخلية وخارجية، تفسحنا في المجالس بحميم اجتماع في رحاب المُسدي إلينا خيرات جمة، معالي الشيخ أحمد زكي يماني شفاه الله ومتعه بالصحة والعافية.
عاصم حمدان إذا تحدث عن مكة، فحديثه أو جلّه عن المؤذن بالمسجد الحرام وعمدة حارة الشامية الشيخ عبدالله محمد بصنوي ـ رحمه الله، وعن معالي الشيخ أحمد زكي يماني، كل الأحاديث من هنا تنشأ وتتفرع وتدور وتثور، بما يتعجّبُ منه السامعين، حتى بما لا يصدّق من أطايب أخلاق الرجلَين المكّيين الكريمين، ليس هو الوحيد من كان يتقصّى الحديث عنهما، وإنما كان يدلي بغرائب المحاسن والشدائد الأخلاقية، والمواقف الرجولية الفذة التي لا يستطيعها إلا الرجال الأشداء.
عاصم حمدان كان ـ رحمه الله .. لا أراه يحب تصدر المجالس، ولا حشو الكلام فيها، كان يصغي في هدوء وينحني في تواضع، خاصة إذا حضر مجالس الحديث والسيرة النبوية والدروس العلمية الفقهية الكبيرة، في مكة المكرمة والمدينة المنورة بحضرة العلماء الاجلاء فلا يشرئب بعنق ولا يستشرف للحديث متشدّقا وإن أذن له.
حينما كان يستفتح الحديث عن مجيئه مكة للتعليم في جامعة أم القرى، واحتضان الشيخ عبدالله بصنوي ورعايته له في داره بالشامية.. يتحدث بما يشجى سامعيه، وكأنه يتجاوز أبناء الشيخ عبدالله في وصف حنان الأبوة وتجسيد رأفة المربي الفاضل، حتى إنه ليشعر أبناء الشيخ عبدالله بشيء من الغَيرة وأنهم دون عاصم لما يحظى ويحوز من الشيخ عبدالله.. إذا ما روى أدق تفاصيل تلك الرعاية الكريمة.
وحينما يكون في شأن من الحديث عن الشيخ نفسه فكان يوحي بروح هامسة من فضائل ومحاسن وأخلاق الشيخ عبدالله تجاه أبنائه وذويه وأقرانه وأبناء وبيوت وعوائل مكة إنسانية واجتماعية. وحين الحديث عن عمُد مكة والمدينة بمقابلات أخلاقية بين ما كان يتبادل به من عادات وقيم وواجبات أخلاق تجري بينهم، دون مقايضة وإنما بإخلاص والحب وحسن الأدب في مجاورة الحرمين الشريفين.. وصلات وشيجة توحي بنشيد الودّ والاخاء.
كان عاصم نفورا في المحادثات واللقاءات، قد يتحمّس جاهرًا ويحمرّ وجهه أمام مخالفيه ومعارضيه ولكن دونما تعصب لرأيه بل للحقيق، وسرعان ما يهدأ إذا ما تمادى واحتدم هناك حديث الجدل.. وها هي تخلو منه تلك المجالس واللقاءات، وتتجدد أشجان الشامية بمكة، كما تثار أشجان (المناخة) وحارة الآغوات، وفناءات العنبرية، ونخيل قباء، ومظلات (الرستمية) وهتاف من باب السلام.
يرحل عاصم تاركا مسارات التاريخ والأدب والسير تئن بفقده وبفقد مماثل.. يرحل أستاذ الأدب واللغة العربية، وعاء من أوعية ذاكرة المدينة المنورة الشعبية والاجتماعية. يرحل في رمضان في ظروف التباعد، ربما ليتحاشى حشو الكلام في تشييع نعشه وفي أثناء المشي في عزائه.... كنت أتساءل في نفسي ووجدت الجواب في أسطر لأستاذنا القدير الحصيف/ محمد سعيد طيب في رثاء له على خفيف.. بقوله : (عندما توفي الأديب المعروف مصطفي لطفي المنفلوطي .. صادف وفاة زعيم الامة زغلول باشا .. في ذات اليوم.!
انشغلت الامة بأسرها بذلك الحادث الجلل .! وقد ترتب على ذلك .. ان جنازة الأديب الكبير .. لم يشارك فيها إلا عدد محدود.. لا يتجاوز أصابع اليدين.! عندما علم بذلك أمير الشعراء أحمد شوقي .. تأثر غاية التأثر .. وأنشأ قصيدته الشهيرة الموجهة للمنفلوطي .. ومطلعها : أخترت يوم الهول يوم وداع ............!!!! وأضاف متحسرا : ما ضرّ لو صبرت ركابك ساعة................... ؟؟؟؟
وفقيدنا العزيز عاصم حمدان .. يغادرنا في ظل هذه الجائحة القاسية .. ونقول - والأسي يدمي أفئدتنا: لقد اخترت يوم ( الحظر ) يوم وداع .!!! لقد افتقدنا أخًا كريمًا وصديقًا نبيلا . رحمه الله.!