أخي إسحاق رحمه الله
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان وبعد:
فالدنيا أجل محتوم، وأمل منتقص، وبلاغ إلى حين، وسير إلى الموت ليس فيه اعوجاج ولا تعريج، ومن أكثر ذكر الموت أُكِرمَ بثلاث: تعجيل التوبة، وقناعة القلب، ونشاط العبادة.
ومن علم أنه إذا مات نُسي أحسن ولم ُيسْئ، وليذكر المرء ذهاب عمره، وقلة عمله، واقتراب أجله.
وما أحسن مقولة أبي حازم: عجباً لقوم يعملون لدار يرحلون عنها كل يوم مرحلة، وَيدَعُون أن يعملوا لدار يرحلون إليها كل يوم مرحلة.
ويقول بعض السلف: من لم يردعه القرآن والموت فلو تناطحت الجبال بين يديه لم يرتدع.
نعم، إن من أعلام الهداية على الطريق للسائرين والمشتاقين إلى جنة النعيم، ذِكْرهم الدائم للموت، مع قصر الأمل، وتذكُّر منازل الآخرة، فَذِكْرُ السالك الموقن بالموت والرحيل عن دار الدنيا، وقِصَر الأمل فيها، وتذكُّر منازل الآخرة وأهلها، من أعظم السبل الموصلة إلى الجنة ونعيمها، ودلالة على الإيمان بها، والاستعداد لها، كما أنه من أعظم الأسباب الموصلة لزيادة الإيمان في القلب، واستقامة الجوارح على الطاعات، وكَفِّ النفس وزجرها عن المعاصي والمحرمات، واستحضار مراقبة الله تعالى حقَّ المراقبة.
ولهذا فالحياة الدنيا قنطرة للآخرة، والسائر العاقل فيها يعدُّ نفسه فيها من الغرباء الراحلين، ولهذا يُكْثِر مِنْ ذِكْرِ الموت والفراق؛ ليكون على حال المسافر الراحل، فلا يتعلق منها بشيء، بل يُعَلِّق قلبه بالدار الباقية فهو غريب على حال الاستعداد والرحيل، ويؤكد هذا ما جاء في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بِمَنْكِبي فقال: «كن في الدنيا كأنك غريبٌ أو عابر سبيلٍ»، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: «إذا أمسيْتَ، فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحْتَ، فلا تنتظر المساء، وخُذْ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك»؛ رواه البخاري.
فلا بد لهذا الوجود بما فيه أن تَنْهدَّ دعائمه، وتُسلَب كرائمه، ولا بد من الانتقال من دار الفناء إلى دار البقاء، ومن دار التعب إلى دار الهناء، ومن دار العمل إلى دار الجزاء. فالعاقل من عرف حقيقة هذه الدار، وصرف وجهته إلى دار القرار، فاشتغل بالتزود للرحيل، وبالتأهب للمسير، فلا مطمع للخلود في هذه الدار، وقد رحل منها الأنبياء والصالحون والأبرار.
في هذه المواقف من الفراق والتذكر قد نحتاج إلى كلام عن فراق الأصدقاء يشفي ما في النفس من آلام هذا الفراق، ومن ثم تعبر النفس عما تحمله تجاههم، وما تشعر به من ود ومحبة، وقد يكون علاجاً لجعل النفس صابرة ومتحملة لما حل بها من مصيبة الفقد.
ومِنْ أبلغ ما قيل في ذلك كلمة الإمام أحمد رحمه الله: «إذا مات أصدقاء الرجل ذل».
ونظر ابن عباس رضي الله عنه إلى رجل فقال: «إن ذاك يحبني قيل له: يا أبا عباس وما يدريك؟ قال: لأني أحبه، إن الأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلفت، وما تناكر منها اختلف».
أقول ذلك وقد اخترمت المنية أخي، وصديقي، ورفيق الدرب، والعمر: إسحاق بن معمر كلوبالي يوم الأربعاء 21 - 10 - 1442هـ، وهو في السيارة متجه إلى عمله في المطبخ الخيري في مكة المكرمة، حيث وُجد بجوارها، وقد فارق الحياة رحمه الله وغفر له.
وصُلِّي عليه فجر يوم الخميس 22 - 10 - 1442هـ، في المسجد الحرام، ودفن في مقابر المعلاة.
وقد أحزنني فراقه جداً، ولا نقول الا ما يرضى ربنا.
وعلاقتي بهذا الرجل الصالح، الدين، الورع، العفيف، تمتد أكثر من (45) عاماً، لم نتفارق، ولم يحصل ما يكدر هذه العلاقة، بل كانت الأيام تزيدها رسوخاً وثباتاً فلله الحمد والمنة.
وإنني أرى من حقه رحمه الله، أن أدون تاريخ هذه العلاقة التي أعتز بها، حفظاً للحق، وعرفانا بالفضل، وشكراً للنعمة، فقد كنت إماماً في أحد المساجد في مكة المكرمة، وهو مسجد صغير مسجد جماعة لا مسجد جمعة في حي الششة: (أحد أحياء مكة المكرمة).
وقد بقيت في إمامة هذا المسجد ما يزيد على عشر سنوات، قبل أن أتشرف بالإمامة في المسجد الحرام عام 1404هـ، ثم تحول هذا المسجد إلى مسجد جامع بعد أن قام بعض المحسنين بتوسعته وإعادة بنائه.
كنت أصلي في هذا المسجد الصلوات الخمس مع إقامة صلاة التراويح في رمضان.
وكنت أعقد حلقات تدريس للقرآن الكريم لمن يرغبون في تحسين التلاوة من أهل الحي من كبار السن من العرب، وغير العرب، وكان من جملة المنتظمين في هذه الحلقة، والذين يبدون رغبة وشغفا، وملازمة، هذا الشاب الإفريقي، قوي البنية، مفتول العضلات، وهو يسكن في حينا، ويقوم بتكسير الصخور في بعض الأراضي الجبلية التي يرغب أهلها إقامة مساكن عليها، وكان من اللافت جداً لدى أهل الحي قوته، وشدته، وحسن عمله، وهدوؤه، وأدبه.
وكان من اللافت عندي مواظبته، وسمته، وحياؤه، وإطراقه رأسه وهو يقوم بالتلاوة، والحرص على حسن الإجادة.
كان أخي إسحاق يعمل تحت كفالة أحد الجيران الفضلاء، ويبدو أنه حصل خلاف بينهما، وفي الغالب أنه من جانب الكفيل لأني أعرفه رجلاً فاضلاً وفيه صلاح، وديانة، ولكنه تعتريه بعض الحدة في مزاجه، فلعل هذه الحدة جعلته يقول له: انظر من تنقل كفالتك إليه، فأبدى أخي إسحاق رغبته في أن ينقل كفالته عندي، وكنت في وقتها صغيراً في عملي، وفي بيتي، وفي حاجتي إلى مثل هذا، فبيتي في حينه مكون من أب، وأم، وابن، وبنت، فكنت متردداً في قبول ذلك، وقد فاتحت زوجتي أم محمد رحمها الله في ذلك، فأشارت إشارة حازمة وسريعة في قبول ذلك، لأنه معروف عندنا في الحي في جده ونشاطه، وحسن تعامله، ولأنه كان يقدم بعض الخدمة للبيت، فأبديت له الموافقة وتم نقل الكفالة، وبعد فترة قصيرة جاء الكفيل السابق رحمه الله مبدياً رغبته في إعادة الرجل إليه، فقلت له الإجراءات النظامية قد تمت، وأحسب أنه من الصعوبة بمكان إعادة ذلك، فكانت هذه بداية العلاقة بهذا الرجل الكريم الصالح.
وعلى مدى هذه الصحبة الطويلة لهذا الرجل الكريم لم يحصل ولله الحمد ما يشويش على هذه العلاقة، فقد كان ملتزماً بعمله، منضبطاً في أدائه، أميناً في مسؤوليته، ومحافظاً على هذه العلاقة، وكنت معتزاً بها وحفياً بها.
كما أنه رحمه الله، كان حسن العلاقة مع الآخرين، وكل من كان له به علاقة، فلا أعرف أنه اشتكى من أحد، أو أن أحداً اشتكاه إلي، أو ادعى عليه بشيء، مع أن طبيعة الطبقات التي يحتك بها، ويتعامل معها مختلفة، وقد يحصل منها ما يحصل مما هو معروف.
وهو رجل شديد القوى، بل إنه يحمل الحزام الأسود في رياضة الدفاع عن النفس من غير سلاح، وهي الرياضة المعروفة برياضية (الكارتيه)، وعادةً من يحمل هذا قد يكون عنده شيء من الاعتداد بنفسه، أو أنه قد يندفع أو يدفع لما يدعوه للدخول في مشكلات، أو منازعات، ولكني أعلم عن هذا الرجل الكريم هدوءه، وحياءه، وبعده عن إظهار أي علو أو استعلاء، أو دعاء، مما يجعله يعيش حياة هادئة مسالمة، لم يجر عليه ولله الحمد ما يكدر.
ومما يستحق التدوين في علاقتي بأخي إسحاق واغتباطي بصحبته ورفقته، أنني كنت في أحد الأيام في السيارة، وهو يقودها، وكان ذلك في أيام انتشار التسجيلات الإسلامية، وكان منها تسجيل لشخصية معروفة، سجل فيها سلسلة عن قصص الأنبياء، وعن السيرة النبوية، وعن الصحابة رضي الله عنهم، وأنا لست حريصاً على متابعة ذلك، إلا حينما يُذكر لي بعض الأمور اللافتة، أو التي قد يحتاج المرء إلى سماعها حتى يكون على علم بها فيما إذا سئل عنها، وبخاصة من قبل بعض الشباب الذين يتابعون مثل هذا، فكنت في السيارة واستمع إلى شريط لهذا الرجل ذكره لي بعض المتابعين، وهو يتكلم عن بعض ما جرى بين الصحابة، ففوجئت بتعليق سريع من أخي إسحاق رحمه الله مع أنه قليل التدخل، بل قليل الكلام، إلا فيما يخص العمل، أو بعض المطارحات الخفيفة، والمداعبات الممازحة بيني وبينه.
المقصود أن إسحاق رحمه الله، حينما سمع ما يقوله هذا الرجل قال: إن الشيوخ عندنا في بلادنا في مالي يقولون هذا الكلام لا ينبغي نشره ولا سماعه.
وقد صدق رحمه الله فهذا هو المنهج الحق، وهو منهج أهل السنة والجماعة، وهو السكوت عما شجر بين الصحابة رضوان الله عليهم، وأهل العلم يحفظون فيهم كلمة عمر بن عبدالعزيز رحمه الله:
«هذه دماء طهر الله منها سيوفنا فنطهر منها ألسنتا».
فكم كنت مسروراً ومعجباً بهذه الكلمات من إسحاق رحمه الله، مما يدل على فهمه، وصحة، ومعتقده، وتدينه، ونور بصيرته، هذا ما بدا لي من الرجل ولا أزكيه على الله.
وإنني على فراقه لحزين، وقد أصيب في أخر أيامه بالفشل الكلوي، فكان يحتاج إلى الغسيل، فكان صابراً محتسباً، في أيام الغسيل يتوقف عن العمل، وقد طلبنا منه أن يستريح، ولا يشق على نفسه، ولكنه أصر على العمل، وقال: إن هذا عمل خيري، وأحب ألا ينقطع عملي عنه، وقد أدركته منيته وهو على متن السيارة متوجهاً إلى المطبخ الخيري.
فرحمه الله رحمة واسعة، وغفر لنا وله، وأسكنه فسيح جنته، وأصلح عقبه وذريته، اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده واغفر لنا وله، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
** **
إمام وخطيب المسجد الحرام - مكة المكرمة
نقلا عن صحيفة الجزيرة