الرَّكب.. ومشاهد من العينية وباب السّلام
كان يسير في هذا الشارع، الذي حمل اسم أحد علماء البلدة الطّاهرة؛ وهو الإمام العيني، أعني شارع العينينة، والذي كان لفترة طويلة من الزمن يعتبر الشارع الوحيد المستقيم، الذي تكوّنت بدايته كمنعطف من منعطفات الشارع الأكبر، والأكثر اتساعًا؛ وهو شارع المناخة، وينتهي شارع العينية عند برحة باب السّلام، وهو أحد أبواب المسجد النّبويّ الشّريف.
كان الفتى يعرف هذا الشارع؛ لأنه كان يسلكه كل صباح ومساء حاملاً كتبه للدراسة في الحرم النّبويّ الشّريف، ثم لاحقًا للانضمام إلى مجموعة من الطّلاب من فئات المجتمع المديني، المختلف الأعراق، للدراسة في واحدة من أشهر المدارس الثقافية في الجزيرة العربية، وهي دار العلوم الشرعية.
في رحلة سيره تحت أقواس الشارع المصنوعة بإتقان من الحجر، يبلغه صوت لم يسمعه من قبل، فتوقفت قدماه ليرى المشهد على حقيقته.. إنهم مجموعة من الرجال المكّيين، الذين يمتطون ظهور دوابهم وينشدون بصوت واحد: «الصلاة والسلام عليك يا سيدي يا رسول الله»، فأدهشه هذا المشهد الذي سمع به من قبل، وأخذته لحظة من سرور وغبطة لم يشهد لها مثيلاً من قبل، فانجذب بروحه وقلبه وعقله إلى هذا النبع المشعّ بنور المحبة، والفيض من ضوء النفوس الوالهة بحب سيدنا رسول الله صلّى الله عليه سلّم، فترك كلٌ شأنه وأرسل خطاه مع الركب، وسار يحثّ الخُطى ليلحق بهذه المجموعة من الرّجال، الذين يلبسون زيًّا متشابهًا؛ كوفية على الرأس، وقد لفّت بعمامة يبدو أنها صُنعت خصيصًا لمثل هذه المناسبة، ولم تغب عنها طبعًا تلك الصفة في اللباس، والتي كان يحرص عليها أناس ذلك الزمن، حتى لتبدو وكأنها تتناسب مع بقية مفردات اللباس، والذي يحرص على ارتدائه أبناء الحارة.. وعندما وطئت أقدام أولئك الرّجال تلك الدرجات، التي كانت تسلمك إلى برحة باب السلام رآهم وهم يترجلون عن صهوات دوابهم، ويتركونها خلفهم؛ بل كان لبعضهم سلوك خاص به، حيث خلع نعليه عند أطراف المسجد النّبويّ الشريف، حتى ليبدو للنّاظر المتأمل أنهم يقطعون المسافة حفاة من نهاية العينية والبرحة إلى المسجد الشريف، ملتزمين سلوك الأدب في حركاتهم وسكناتهم. ولمّا بلغوا عتبات باب السلام أصاخوا، وحولهم جمع كبير من سكّان البلدة الطّاهرة، لصوت المنشد، الذي ينعتونه بـ»المُزهّد»، ويفترض أن يكون ذا صوت رخيم حتى يقوم بإلقاء إحدى القصائد في المديح النّبويّ، حتى إذا ما انتهى المُزهّد من إلقاء مدحته في ذات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، عادوا أدراجهم إلى العينية، وأمسكوا بأزمَّة دوابهم دون أن يمتطوها، وقادتهم خطواتهم إلى المناخة، وهناك تفرّقوا إلى مجموعات؛ فبعضهم سار إلى زقاق الطيّار، وحوش درج، والبعض الآخر إلى باب الكُومة، حيث واحد من أشهر المقاهي؛ وهو مقهى المُعلّم «الفار».. ولقد كانت منازل القوم في طيبة الطيبة مفتوحة أبوابها أمام أفراد الركب المكّيّ، والذي كان يتراوح في رحلته بين مكّة المكرمة، والمدينة المنوّرة لفترة قد تمتد لمدة ثلاثة أيام، وقد تطول إلى الأسبوع الواحد.
وبمجئ الرّكب تلبس المدينة المنوّرة زيًّا قوامه الفرح والسّرور، ولا يخلو الأمر من شيء من اللّهو البريء، مثل لعبة المزمار، ويتسابق النّاس لحضور مجالس السيرة النّبويّة في بستان الصافيّة، والشربتليّة والأخوين. وكان من أشهر المنشدين المكّيين: حسن لبني، وعبدالرحمن المؤذّن وزيني بويان، ومحمّد الكحيل، والسيد عبّاس المالكي.. ويقابلهم في المدينة المنوّرة منشدون من أمثال: الشيخ عبدالستّار بخاري، والشيخ حسين بخاري، والريس محمود نعمان، والسيد حسين هاشم، وهو الصوت النّدِي الذي لم يتكرر على مدى قرن من الزمن.. ومن كبار السن: إبراهيم صبّاغ، رحمهم الله جميعًا.
لقد طويت صفحة الرّكب المكّي منذ أكثر من أربعين عامًا.. ولكن وددت التذكير بشيء من تراثنا الذي يستحقّ التدوين، وإن كنّا قد غفلنا عنه مدّة من الزمن.. فما أجدرنا اليوم بتذكّره، والإشادة بصنّاعه ورموزه، ومريديه..
نقلا عن جريدة المدينة 31 مارس 2020