الدكتور محمد إبراهيم أحمد علي مدرسة حياة

يموت المرء وتبقى ذكراه الطيبة حية في النفوس، عالقة في الأذهان وفاءً وتقديراً لما قدم لمجتمعه، وأمته، ومواطنيه، وتعاطيه لشؤون الحياة في دنيا الناس، وبقدر عطائه تعظم الحسرة والحزن عليه.

الزميل الأستاذ الدكتور محمد إبراهيم علي - رحمه الله - كان على موعد مع لقاء ربه الساعة الرابعة بعد عصر يوم الأحد الدابر 18 ربيع الأول، عام 1430هـ من الأعلام القلائل الذين وهبوا حياتهم لخدمة الأمة والدين بلا إعلام ولا إعلان.

أمضى حياته بمثالية يغبط عليها، كلها دروس وعبر، أكاديمي فريد بين زملائه الأكاديميين، واجتماعي متميز على مستوى الصداقات والتوجه على مستوى العمل.

تطبيق للقيم والتعاليم الإسلامية في أصدق صورها ديدنه، وانضباط للمبادئ الاجتماعية المستقيمة، في أجلى معانيها.

حياته عالماً، فقيهاً، إدارياً حكيماً نتاج تربيته القويمة التي نشأ عليها على يد علماء مربين أفاضل، كانوا القدوة الصالحة لأبنائهم الطلبة، كان لملازمته لوالده الحكيم، وحضوره مجالسه التي كان يحضرها كبار المكيين وقياداتهم الاجتماعية، والفكرية دور كبير في تكوينه الاجتماعي والفكري.
اعتزل الشللية، وبشكات السهر وتضييع الوقت فيما لا يفيد، وانشغل عنها بالعمل المفيد، فمن ثم كان لا يفتأ يردد ما كان يطرق سمعه من حكم ونصائح لوالده وشهود مجالسه من كبار السن يتمثل بها كلما حضرته المناسبة. نشأ - رحمه الله - نشأة علمية اجتماعية مستقيمة.

دأبه النصح والإخلاص لمن يعرفه ومن لا يعرفه، وهو شعاره فيما يسند إليه رسمياً، أو شخصياً.

التدريس مهنته لم ينصرف عنها إلى عمل سواها، حتى لو كان العمل الخارجي يدر عليه أضعاف مرتبه من النقود منذ كان مدرساً في التعليم العام، مدرسة خالد بن الوليد المتوسطة، كان مثال التفاني والإخلاص، يذكر له هذا تلاميذه السعوديون ماضياً، المتسنمون مراكز قيادية، واجتماعية في الوقت الحاضر، لا يزال محمد إبراهيم علي مدرسهم في المرحلة المتوسطة يعيش في ذاكرتهم حياً بأسلوبه الأبوي، وجديته المخلصة وعطائه العلمي، والمعرفي.

محمد إبراهيم أحمد علي طالب الدراسات العليا في جامعة لندن مرجع أساتذته المستشرقين، وزملائه الدارسين فيما يشكل عليهم، أنهى دراسته كأحسن سعودي نال شهادته العليا الدكتوراه، نال إعجاب مشرفه، وزملائه، وكل من يدور في فلك جامعة لندن، حينها كان رمزاً للطالب السعودي في علمه، وسلوكه، وحسن تصرفه.

في جلسة من جلساته الأخوية المعتادة أسبوعياً، وتذكر أحداث تلك الفترة ختم حديثه بقوله: «أحمد الله أن الواحد منا لم يرتكب أمراً يؤدي إلى الهزء بالإسلام». تعليقاً على ما يبدو من سلوكيات وعادات من البعض في الوقت الحاضر عندما يذهب إلى بلاد الغرب.

عاد إلى الوطن، وكله حماس، وإخلاص للنهوض ببلده، ورفعة أبناء أمته، وقد تجلى هذا في إسهاماته المتعددة المتنوعة.

أسهم بنصيب وافر في النهوض بكلية الشريعة ومؤسسات التعليم العالي في جامعة أم القرى، وكانت له بصماته الواضحة في إنشاء كلية الدعوة وأصول الدين، ومركز البحث العلمي، ووضع المناهج في هذه الكليات، وأخيراً وكيلاً للدراسات العليا فأصلح فيها بقدر الجهد ما أفسد الدهر.

تتلمذ عليه في كلية الشريعة في جامعة الملك عبدالعزيز من أبناء هذه البلاد العزيزة، وأبناء البلاد الإسلامية على سعة امتدادها، طلاب أصبحوا منارات في بلادهم، لا يذكرون -من أساتذتهم وهم في مناصبهم العليا- وحقول أعمال إلا أستاذهم الدكتور محمد إبراهيم أحمد علي رحمه الله من بين كافة من مر بهم من المدرسين الذين تلقوا عنهم العلم في جامعة أم القرى.

لم يكن تدريسه تقليدياً بإلقاء، أو قراءة من كتاب، أو كتابة مذكرات تملأ وقت المحاضرة عادة بعض أساتذة الجامعات العربية، ثم ينصرفون، بل كانت محاضراته تكليف لطلابه بالبحث، وإعداد منهم للمادة، ومناقشة لما أعدوه، بل ربما كلفهم بإلقاء ما جمعوه وإعادته للمناقشة، والتصحيح والاستدراك.

يدينون له في تعليمهم الرجوع إلى المصادر، ومزاولة طرق البحث العلمي عملاً وتطبيقاً، وإثارة أفكارهم، وتنمية مواهبهم.
صريح لا يعرف المجاملة على حساب العمل، أو الحقيقة العلمية، ولو كلفه هذا غضب غيره منه.

حياة الأستاذ الدكتور محمد إبراهيم أحمد علي شريط ناطق لجلائل أعماله العلمية في التأليف التي يستمد منها أساتذة الجامعات في الحقل الفقهي أسس مادتهم الفقهية وبخاصة في الفقه الإسلامي المقارن، جدير بأن يلقب بأبي حنيفة الصغير، فقد عكف على تأليف بحوث وكتب هي مرجع دراساتهم، وتأسيس لفقيه واع بتراث أمته، يعرف من خلالها ما يأخذ منه وما يذر، كتاب مصطلح المذهب المالكي قضى في تأليفه ما يقرب من عشرين عاماً متوالية، ليس للمالكية إطلاقاً مثله، لم يشتغل أثناء تأليفه له بعمل آخر سوى التدريس لمادة الفقه المقارن.

حياته الخاصة هدوء وسكون، مدمن للقراءة، عاشق للمعرفة في جميع حقولها، انعكس هذا على تناوله للموضوعات التي يتحدث عنها، أو يكتبها، لا يملك سامعه إلا أن يصغي إليه، حسن إلقاء، وبيان واضح، فكر مرتب حصيف.

تعامله مع أهله ومعارفه رحمة لصغارهم، وشفقة لكبارهم.
غادر رحمه الله دنيانا الفانية دون إعلان وضجيج، والكل ثناء وحب، وتذكر لمحاسنه غادرنا قرير العين، هادئ النفس للقاء ربه في سكون وهدوء كما كانت سيرته في حياته وعز نشاطه ليلقى وجه ربه، وليلقى هناك مثوبته من رب كريم لما قدم من عمل لدينه وأمته، ليكون جزاؤه فضلاً من الله ورحمة جنات تجري من تحتها الأنهار «فرحمة الله قريب من المحسنين».

عكاظ 2/4/1430هـ