كرَّم الله مكة وفضّلها على سائر البقاع
لا أظن أن الموضوعات كلّها قد انحسرت عن ذهن أخي الأستاذ تركي الدخيل، حتّى أنه لم يجد ما يكتب فيه سوى أن يعلن بكل هذه المساحة من القول المكتوب، والمدعوم بالنقل عن مَن يرى (بريدة) المدينة، عاصمة القصيم، كما أحب أن ينعتها الأخ تركي، مكانة تفوق مكانة سائر مدن البلاد، وحتى لا يغضبنا جاوز بمكانتها مكانة عاصمة البلاد الرياض، وأنها غذّت المدن الأخرى بالرجال العاملين، حتى المدن خارج جزيرة العرب التي يزعم أنه سكنها الآلاف من النازحين من بريدة، وحتّى وافق غيره بأن جعل مقالة له معنونة (بريدة المكرمة)، مضاهاة لما اشتهر على الألسنة لمكة، رغم شعوره أن مثل هذا العنوان صادم لمشاعر الناس، وما كان لمثلي ممّن ينبذون التعصب للأقاليم، ويشكرون الله أن اتّحد شملنا في هذا الكيان الواحد، الذي به نفخر ونعتز، لا نفرق بين سائر أقاليمه: مدنه وقراه وبواديه، أن يعترض على مَن يرى المدينة التي وُلد ونشأ فيها خير المدن، وبريدة القصيم إحدى مدى بلادنا المهمة، التي فيها أهلنا الأحبّة، الذين نرعى حقهم، ولهم منا حبل مودة ممدود أبدًا لا ينقطع، ونحن على يقين ألاَّ أحد منهم يضاهي مدينته بمكة، التي أكرمها الله بالكثير الذي لا تلحقها فيه مدينة مهما كانت لها من الميزات، وتكريمها وإن أراد أخي تركي أن يسلبها الوصف به في مقاله اللاحق الذي عنونه (قصف السادة القرّاء)، بل وأعلن لذلك جائزة تحديًا لمن يثبت أن في القرآن والسنّة وصف مكة بالمكرمة، أحب أن أقول له إنه لا خلاف بين المسلمين قاطبة أن الله كرّم مكة وفضّلها على سائر البقاع، ولست أدري لِمَ يغضبه أن توصف بالمكرّمة، والله عز وجل ورسوله سيّد الخلق وإمام المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم خصّاها بما يدل دلالة واضحة على أنهما يكرمانها، ففي كتاب الله عشرون آية أو تزيد تذكر فضل مكة التي حباها الله وأكرمها دون سائر البقاع به، ففيها بيت الله الحرام، والله ينسبها إليه فيقول: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ)، وبه تميّزت مكة وشرفت، وبوجوده جعلت أفئدة الخلق تهوي إليها وإلى أهلها، ويرزقون من الثمرات ما يأمنون به من الجوع، وبالهدي المنبعث منها لسائر الدنيا يأمنون من الخوف، بل إن وجود هذا البيت الحرام كان للبشرية سبب أمن وأمان. أليس الله يقول: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلَّى)، بل وليكرمها الله أقسم بها في موضعين من كتابه فقال في سورة البلد: (لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ)، وقال في سورة التين: (وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) تنويهًا بأم القرى، وإعظامًا لشأنها، ليكون حبها راسخًا في القلوب، فما أحبها إلاَّ من أحب الله عز وجل، ورسوله الكريم صلى الله عليه وآله وسلم اللذين أكرماها وفضّلاها، ولم يبغضها إلاَّ من أبغضهما، هي مَن قال عنها سيدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أُخرِجت منك ما خرجت)، ويوم أن دخلها فاتحًا ليخلّصها من أيدي المشركين قال عليه الصلاة والسلام: (إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دمًا ولا يعضد بها شجرة)، وتحريمها تكريم لها لتكون موطن الأمن الذي نوّه عنه ربنا بقوله: (فِيهِ آيَاتٌ بَيِّـنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً) ويكفي مكة تكريمًا أنها مهبط الوحي، ومنها شع النور على سائر الدنيا، فقد اختارها الله لتكون موطن الرسالة الخاتمة، وأن مَن بنى البيت الحرام بها، وسبب أن تستوطن، وهي الأرض غير ذات الزرع، هما نبيّان عظيمان إبراهيم واسماعيل عليهما السلام، أيُقال بعد هذا كله ألاَّ نص يثبت أنها مكرمة، فإن لم تكن هي المكرمة، فأي مدينة غيرها يمكن أن توصف بذلك؟ وإثبات فضل البقاع التي فضلها الله لمكة المكرمة والمدينة المنورة لا يعني انتقاص غيرها من البلدان، التي هي عند أهلها محبوبة. فحبُّ الوطن الذي على أرضه درج الإنسان، وعاش لا ينهى عنه الإسلام؛ لأنه فطرة أشبه ما تكون بالغريزة، لا يستطيع الإنسان لها دفعًا، وحبُّ الإنسان لوطنه يجعله يعمل له مخلصًا، ويحافظ على وحدته أرضًا وإنسانًا، ويسعى لرفع مكانته بين أوطان بني الإنسان، يدافع عنه حينما يُعتدى عليه، ويفتديه بالروح قبل المال، ولا ينهى عاقل عن هذا الحب، ولكن حبه للمدينة التي عاش فيها لا يجعله يضاهي بها أحب البقاع إلى الله وأكرمها عليه، ومكة أحب البقاع عند كل مسلم، وهي مستحقة التكريم، والوصف بالمكرمة وإن أغضب هذا البعض، والحمد لله الذي زرع حب مكة في القلوب حتى أصبحت مهوى الأفئدة، وستبقى كذلك حتى تقوم الساعة، فهل ندرك هذا؟ هو ما أرجوه. والله ولي التوفيق.
المدينة 5/6/1430هـ