حِجازيّون في النهضةِ العربيّة الحديثة
حين نشر محمد حسن عوّاد قصيدته "تحت أفياء اللواء" في صحيفة القبلة المكيّة في 21 أغسطس عام 1921 إنما كان يعلن عن ميلاد زمن جديد للشعر على مستوى العالم العربي كافةً. لقد كان العوّاد - طليعة النابتة الحجازيّة المُجدّدة - أول من نظّم قصيدة التفعيلة الحُرّة عربياً، في ريادةٍ منفردةٍ، سبق فيها من ينازعه اليوم على سدتها؛ عمالقة آخرون، كنازك الملائكة وبدر شاكر السيّاب وعبدالوهاب البيّاتي.
وقبل العواد بزمنٍ بعيد، كان محمد بن إسماعيل بن عمر المكّي، من مواليد مكة (1795-1857)، المعروف بالشيخ محمد شهاب الدين، عَلماً من أعلام النهضة العربية؛ أديب، وكاتب، وشاعر.. انتقل من مكة إلى مصر فنشأ بالقاهرة وتعلّم في الأزهر وأولع بالأغاني وألحانها وساعد في تحرير صحيفة (الوقائع المصرية) – وهي أول صحيفة عربية، ثم تولى تصحيح ما يُطبع من الكتب في مطبعة بولاق الشهيرة، واتصل بالخديوي عباس الأول فلازمه في إقامته وسفره ثم انقطع للدرس والتأليف فصنَّف (سفينة المُلك ونفيسة الفُلك) في الموسيقى والأغاني العربية ورسالة في التوحيد وجمع ديوان شعره وتوفي في القاهرة. ويُعد شهاب الدين، أبرز من جمع وحفظ الموشحات العربية في القرن التاسع عشر الميلادي، وقد كان إلى ذلك أستاذاً لأعلام كفارس الشدياق وغيرهم. وقد اعتبره أحمد إبراهيم غزاوي لذلك أنه أول من اشتغل من المكيين في الصحافة.
ومحمد إبراهيم المويلحي (1858-1930)، مِصري من أصل حجازي، كان أحد أعلام النهضة العربية، شارك في الثورة العُرابية، عُد نظيراً للإصلاحيين محمد عبده، قاسم أمين، وحافظ إبراهيم. أسس صحيفة مصباح الشرق، وكان يكتب فيها زاوية شهيرة بعنوان (فترة من الزمان) ينظمها على منوال بديع الزمان الهمداني، كما ترك مقالات رائدة في الفلسفة.
أما أول من أنهض الليبيين وأيقظ الأمة الليبية، فهو حمزة أفندي ظافر، وقريبه إبراهيم سراج الدين، وأحمد النائب [الأنصاري]، وجميعهم كانوا حجازيين من أهالي ومواليد المدينة المنورة، الأول من أسرة آل مدني العريقة، رحل من المدينة المنورة إلى طرابلس الغرب، والثاني من مواليد المدينة عام 1855، رحل إلى مصر وأنشأ فيها مطبعة أسماها (الحجاز) عام 1881، كانت تُصدِر دوريّة الحجاز التي أوقفتها السلطات البريطانية في مصر، ليعمل فيما بعد مُحررا في صحيفة (الفسطاط) عام 1882، قبل أن يرحَل إلى بنغازي ومن ثم لطرابلس التي أسس فيها -مع حمزة ظافر والأنصاري- أول جمعية أهلية ذات طابع سياسي مُعارِض في عام 1882، درَّست أجيال النهضة الليبية، وأسهمت في النضال الشعبي والوطني ضد التغلّب والفساد العثماني، ومجابهة الخطر الأوروبي، حتى أعدَمَته السُلطات، ونفت رفيقيّه إلى إسطنبول.
وكان إبراهيم سِراج الدين سبق أن أسس أوائل عام 1883 مكتبة أو دار (القراءة-خَانَه)، بمدينة طرابلس في شارع العزيزية قُبالة باب المنشية من سورها القديم، ووضع لها نظاماً داخلياً بعنوان (قانون القراءة-خانة الخصوصية) لتقوم بدورها كمكتبة عامة ومركز ثقافي جامع (راجع عبدالسلام أدهم: وثائق تاريخ ليبيا الحديث) .
ويُعتبر الشريف محي الدين بن علي حيدر باشا (1892-1967)، المعروف في تركيا باسم ?erif Muhiddin Targan - من أشراف ذوي زيد، وابن آخر أمراء مكة في العهد العثماني- أحد رواد الموسيقى العربية الحديثة . لقد أسس، مع الموسيقار حنّا بطرس، معهد الموسيقى بالعراق (كونسرفتوار بغداد) عام 1936، وعيّن أول عميد له – وهو أستاذ للموسيقار العراقي الشهير منير بشير وأخيه جميل بشير. ومحيي الدين، المكّي أصلاً، كان قد درس الموسيقى في إسطنبول، ثم سافر إلى أمريكا عام 1924، وأقام في بدايات بعثته حفلاً موسيقياً باستضافة أعظم أساتذة البيانو على الإطلاق، ليوبولد جودوسكي Leopold Godowsky، وبحضور كبار الموسيقيين آنذاك أمثال كرايسلر، جاشا هايفتز، والبروفيسور أوير، غطته صحيفة الهيرالد تريبيون التي مضت تكتب عن براعته في العزف على العود، قائلة عنه: "لقد أحدث الشريف محيي الدين في العزف على العود الانقلاب الذي أحدثه (نيكولو) باجانيني في الكمّان". قبل أن يمضي في التعلم على آلة الفيولونسيل على يد أستاذها الموسيقار الشهير ب. فاشكا، متوّجاً دراسته في أمريكا بإحيائه لحفل موسيقي شهير على مسرح "التاون هال" بنيويورك في 13 ديسمبر 1928 – علما بأن نوتات محيي الدين الموسيقية ماتزال تُدرّس إلى يومنا هذا بالمدارس العراقية: منها؛ الطفل الراكِض، ليت لي جناح، الأغاني للأطفال، كابريس كابريس، سماعي نهاوند، سماعي عراق، سماعي دوكاه، تأمل، وغيرها !
والشيخ عبدالله سراج، المكي الصميم، قاضي قضاة مكة السابق، ومفتي الأحناف فيها، ورئيس مجلس الوزراء بالحجاز في العهد الهاشمي، كان له دور جوهري في قيام الدولة الأردنية الحديثة، حتى لقد عُهدت إليه رئاسة الحكومة بالأردن فعلاً في 22/2/1931. أما نجله حسين باشا سراج، أحد طلائع النهضة بالحجاز والمملكة العربية السعودية، كان له إسهام آخر في ريادة الحركة المسرحية والثقافية والرياضية بالأردن الحديث. والشيخ محمد الخضر الشنقيطي، الحجازي الصميم، عالم المدينة المنورة وواعظها في العهد الهاشمي، كان أول قاض للقضاة بحكومة إمارة الأردن في 11/4/1921، وعضو مجلس الأعيان وعضو مجلس الوصاية على العرش بالأردن. كما شغل من بعده، نجله، الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، منصب قاضي القضاة أيضا بالأردن في عام 1947، وعُين وزيرا للمعارف.
ولمكة فضلٌ في نبوغ ريادات أقطار عربية أخرى. إن أول رواية جزائرية كُتبت باللغة العربية كتبها أديب جزائري كان مُقيما في مكة، تأثر ببيئتها وألهمته أجواؤها، حيث المشهد الأدبي والثقافي في مكة كان في أوجه وفي ذروة عنفوانه. إننا نعني رواية (غادة أم القرى)، للأديب/الشهيد الجزائري أحمد رضا حوحو، التي صدرت من مكة عام 1947، وتعتبر باكورة المنجز الروائي الجزائري الحديث بحسب الدكتور عبدالله الركيبي– فيما صدرت أول رواية سعودية فعلاً قبل ذلك التاريخ بسبعة عشر عاماً؛ فصدرت رواية (التوأمان) لعبدالقدوس الأنصاري في المدينة المنورة عام 1930 و(الانتقا) لمحمد نور الجوهري في مكة عام 1934. أحمد حوحو كان قد مكث في مكة اثني عشر عاماً بدءاً من عام 1934 إلى عام 1946 ثم عاد إلى موطنه بدوافع المعيشة القاسية، على خلفية شحّ مصادر الرزق في الحجاز حد الفاقة في الأجزاء الأخيرة من الحرب العالمية الثانية.
وأول من رصّ عقد المدارس النظامية المُتفرّقة في أنحاء العالم الإسلامي، هو تاجر جدة المعروف، الحاج محمد علي بن زينل علي رضا. فبعد تأسيسه لفرعي الفلاح بجدة (1905) ومكة المكرمة (1910) تأسست الفلاح النظامية في كلٍ من حضرموت وعدن ومومباي وغرب أفريقيا وإندونيسيا وماليزيا ودبي والبحرين والصومال وجزر القُمر والكويت، إما بإيعاز مباشر منه أو بمساهمة عدد من خريجي الفلاح من فرعَيهَا بمكة وجدة.
وآل الدباغ المكيّون، كانوا أولَ من أسس مدرسة نظامية في جنوب الجزيرة العربية، وهي مدرسة الفلاح بالمكلاّ، عاصمة بلاد حضرموت، وكان أكثر المُدرّسين فيها من المكيّين، وبالإضافة إلى السيّدين طاهر الدباغ، وحسين الدباغ، درّس فيها الشيخ عمر حمدان والسيد أمين بن عقيل، وحسن شيبه، وصبحي الحلبي، والشيخ الطيب الساسي. وساهَمَ في إنشائها أحمد إبراهيم غزاوي، شاعر الملك عبدالعزيز. وقد توّسع آل الدباغ، فافتتحوا فرعاً آخر في عدن، وكان بين من دَرّسَ بها عدد آخر من أهل مكة، كالأستاذ عمر حسين، والسيّد الأديب علي فدعق.
أما أحد أوائل من تسلّم إدارة أول مدرسة نظامية فعليّة في ساحل الخليج العربي (نعني مدرسة الفلاح في دبي التي أسسها الحاج محمد علي زينل عام 1927)، كان مُجاوراً مكياً، هو الشيخ محمد نور سيف بن هلال المهيري، الذي تعلّم في حصوات الحرم المكي، وتخرّج من الفلاح المكيّة، وكان من أساتذته من علماء مكة؛ الشيخ عمر حمدان، والشيخ أحمد ناظرين، والشيخ علي مالكي، وكان رفيقاً للشيخ علوي مالكي، وهو والد الدكتور أحمد بن محمد نور سيف، المدير الحالي لدار البحوث للدراسات الإسلامية وإحياء التراث بإمارة دبي.
أما فرع الفلاح في مومباي، فقد درّس فيه ثلة من فلاحيي مكة، أمثال: معالي محمد حسن كتبي، وزير الحج والأوقاف السعودي فيما بعد، وسامي كتبي، وعبد القادر عثمان، وحمزة عجاج، وعبدالله عثمان، وأحمد بامفلح، ومحمد حسن أخضر، وعمر غُراب، والسيد عمر عقيل، وإسحاق عزوز، مدير مدرسة الفلاح بمكة فيما بعد ومُعاوِن أمير مكة بعد ذلك .
وإحدى أول المدارس الأهلية في الكويت، تلك التي أقامها زكريا الأنصاري أحد فلاحيي مكة، ووالد الأديب الكويتي المعروف عبد الله زكريا الأنصاري، الذي روى عن تأسيس والده لمدرسة الفلاح في الكويت لجريدة القبس الكويتية بتاريخ 28 مارس 1984، قائلاً: إن أصل عائلتهم من الحجاز، ووالدهم أسس الفلاح الكويتية عام 1927، عندما وصل من عمان إلى الكويت .
وأول من أسّس المدارس النظامية العربية في غرب أفريقيا، حاجٌ موريتاني كان مُجاوراً مكيّاً، وهو الحاج محمود باه عمر باه، الذي تخرج من فلاح مكة عام 1941، كان قد احتضنه علمياً ومالياً، واستضافه في دارته بمكة، العالِم المكّي المعروف السيّد علوي بن عباس مالكي. وبعد أن أنشأ –الحاج محمود- أول مدرسة فلاح في موريتانيا بإيعاز من الحاج محمد علي زينل، توجّه إلى السنغال وافتتح فرعاً آخر في داكار (1945)، ثم في مدينة خاي في مالي (1957)، ثم افتتح مدرسة في جمهورية غينيا عام (1957)، ألحقها بأربع مدارس فلاح في الكاميرون (1959) وليبيريا (1962)، ومن ثم في الجابون (1974)، ليصل مجموع ما افتتحه من مدارس فلاح نظامية، تُدرّس باللغة العربية، في غرب أفريقيا الـ76 مدرسة! (راجع كتاب عبدالله بلخير يتذكّر) .
الوطن 20 ربيع الاول 1430هـ