تجريد وتبسيط البيوت الحجازية

 

تسكن في لوحاته تفاصيل المكان ليس بمعناه المعماري وتصاميمه الأصيلة فحسب؛ بل ينبض بالأحاسيس الدافئة التي ضمتها تلك الجدران.. لما تحمله نفسه المرهفـة من الحب الصادق للماضي الجميل فيحس الناظر إليها بالحنين إلى ذلك الزمن.. فالحارة والطرقات الضيقة والبيوتات الحانية التي قد التصقت جنباتها بتلاحم حميم ينم عن المحبة والوئام بين ساكنيها.. برواشينها المتدلية التي هي متنفس المكان ووسيلة الاتصال بين الجيران..
كل هذه الأماكن لم تبرح مخيلة التشكيلي سعيد العلاوي فهي الماضي الحاضر بكل تفاصيلها فبتكوينات غاية في الأصالة والارتباط بالجذور يسعى العلاوي إلى الموائمة بين التراث والمعاصرة جاعلاً من المفردة التراثية مدخلاً تعبيريًّا جماليًّا.
فتربطه علاقة قوية بالعمارة الحجازية.. ساعده وجوده ونشأته في المنطقة على التعرف على خصائصها وجمالياتها، والحوار مع ماهيتها.. فيتكون خزان ذاكرته من مجموعة من الصور والمفردات التراثية الحجازية التي نشأت في دواخله، فمن الرواشين والأبواب الخشبية العتيقة والنوافذ، يسهم بأسلوبه التشكيلي وتقنية أداءه في إبراز جمالياتها وتسجيل مكوناتها من خطوط وأقواس ومنحنيات بلغة تشكيلية معاصرة.. ليختلط هذا المخزون مع تخيلات وأحاسيس الفنان وانفعالاته مصرًا على رميه على فضاء لوحته الزيتية، بعد تبسيطه واختزاله إلى مساحات لونية متجاورة ذات امتدادات عمودية يزاوجها بتطريزات زخرفية شعبية.. تعكس تلك الامتدادات صورًا للبيوت الحجازية القديمة وقد بدت متجاورة ومتلاصقة كأنها بيت واحد.. يتضح فيها تبسيطه للواقع بأسلوبه التجريدي التعبيري، بخطوط عضوية تتراقص رأسيًّا تعكس تأثره بالتضاريس والسلاسل الجبلية المرتفعة معبرًا بها عن الليونة والحركة منوّعًا بينها (عضوية وهندسية) وبين مفرداته (الرواشين والأبواب والنوافذ) التي تتكرر وتتنوع بتحركه داخل مساحاته الملونة.. وكأنه يريد أن يرينا أكبر مجموعة من الأشكال التي تزدحم بها ذاكرته.. ناسجًا من خلال مخيلته الخصبة ملامس سطحية للطوب الأحمر والحجارة كخامة قوية وصلبة كانت سائدة في البناء الحجازي.
تميل ريشته إلى التجريد والتبسيط في الشكل واللون.. فتركز اهتماماته بالأشكال الهندسية (المربع بالذات والمستطيل) مع قدرته على التلاعب الجميل بخطوطه الرأسية والأفقية والمائلة والتي تعكس جماليات الروشان وثراء زخارفه، وتعكس أيضًا سمات البساطة والصلابة في نفس الوقت.. فتحمل خطوطه في طياتها بساطة أهل الحجاز وشموخهم وبساطة وجماليات التراث المعماري الحجازي، وفي المقابل تحمل صلابة (الخشب) ليمدنا بإحساس حي ومباشر عن طبيعة الخامة المستخدمة في الروشان.
في لوحته يعتمد على اللون كمصدر إبداعي ساعده في تعميق الإحساس بأرض الحجاز وجبالها الشامخة التي لا تغيب عن ناظره في (البني ودرجاته).. أما صبغاته اللونية الدافئة (الأصفر والبرتقالي) نلمس فيها حرارة الشمس الحجازية بأشعتها الساطعة، والتي تتردد فيها ومضات مضيئة من الأخضر الفاتح (الخفيف)، ويطل من بين أشكاله اللون الأزرق الفاتح عاكسًا من خلاله زرقة السماء الحجازية الصافية كصفاء قلوب أهلها، ومن خلال مساحته الزرقاء يريد أن يرينا التصميم المعماري للرواشين وكيف تكون بارزة عن حوائط البيوت لتسمح بدخول الهواء والضوء باعثًا في النفس الأمل ليثير في الرائي إحساسًا روحانيًّا مضيئًا كضوء مكة مهبط الوحي ومنبع الرسالة..
أحب أن تكون رواشينه البارزة ونوافذه في فضائه الأزرق متجاورة ومتقاربة.. تكاد تلتصق ببعض يؤكد من خلالها روح التقارب بين الجيران والمحبة التي تجمع بينهم.. ليعيدنا لروح الحوار الذي يدور من خلف الشبابيك الخشبية المزخرفة.. وكأننا نستمع إلى همس ووشوشة من بين رواشينه المزدحمة.. ليسترجع الأوقات الجميلة وحكايات الماضي لتلك المدينة الحجازية التي عاشها بعاداتها وتقاليدها وحب جيرانها.. والتي اختفت ملامح عناصرها المعمارية الجمالية نتيجة التطور المعماري. وقد بدت بيوته خالية من السكان بعد أن هجرها أهلها وانتقلوا إلى مساكن حديثة.
ومن داخل تلك الرواشين البارزة المطلة على الحارة الحجازية القديمة وبيوتها المتعانقة يقف العلاوي متأملاً الحياة الحجازية بتضاريسها وأجوائها الحارة وطبيعة أهلها وكل ما فيها من ألوان وأشكال.. فأحس بجمال طبيعة المكان لترسم ريشته على إحدى لوحاته تلك المشاعر النابعة من إحساسه العميق بالماضي الحجازي الذي وظف مفرداته ورموزه التراثية بنجاح، فنلمس في لوحته توفيقه وقدرته على ربط عناصر التكوين وتحقيقه للتوازن والتنوع في مفرداته والإيقاع.. كما نلمس تزاوج خطوطه النفسية مع خطوطه التشكيلية التي عكست لنا السمات والخصائص الجمالية للمفردة التراثية الحجازية لتظهر برؤية الفنان الخاصة في صيغة جمالية جديدة محافظًا على طابعها العام، لينبهر المشاهد بقوة خطوطه وجمال ألوانه فيجد نفسه أمام تجربة مميزة وفريدة في عمقها وأصالتها ذات طابع مرتبط بتراث البيئة الحجازية، فمن تضاريسها استمد خطوطه ومن مناخها الحار استمد ألوانه.. مواكبًا روح العصر ومستوعبًا الحركات الفنية الحديثة.. محافظًا على أصالته.. فمهما حلق بفكره، وجاب الآفاق؛ تظل أفكاره نابعة من أرض الوطن.

 

 

المصدر : ملحق الأربعاء بجريدة المدينة, 14 أكتوبر 2009م