انتحار أكاديمي ..!
* وفاة الأستاذ الدكتور ناصر الحارثي أثارت وشدّت كثيراً من أبناء مجتمعنا المحلي بشكل غير مسبوق. وذلك لاعتبارات عدة لعل من أهمها ما تناقلته الصحف عن طريقة الموت، والتي وصفته (بانتحار!) وتأكيد المتحدث الرسمي لشرطة العاصمة المقدسة على فرضية الانتحار. كما أن الكيفية التي تناولتها الصحف في تغطيتها للحدث أدّت إلى تساؤلات مجتمعية في معظمها مقبول.
* وبغض النظر عن الكيفية التي توفي بها الصديق الدكتور الحارثي عليه رحمة الله، إلَّا أن تساؤلات عدّة ينبغي عدم تجاوزها في هكذا موقف، بل التوقف عندها وفحصها بتمعّن لما لها من دلالات وانعكاسات ليست على ذات الأكاديمي، بل وعلى الدائرة الأكاديمية بأكملها، والكينونة المجتمعية الأكبر.
* حالة الدكتور الحارثي توضح إلى حد كبير الحال العام الذي يعيشه الأكاديميون السعوديون، ومعاناتهم العلمية والحياتية. فالصحف ذكرت أن أحد أسباب انتحار الدكتور كان حجم الديون التي كانت عليه، والتي بلغت في بعض التقديرات 7 ملايين ريال. ولو ومن باب المسايرة أخذنا بهذه الفرضية.. فالتساؤل الأهم هو: كيف أصبح هكذا أكاديمي مديوناً وهو في عز مجده الأكاديمي وإنتاجه العلمي؟
* من المعروف أن الأستاذ الدكتور ناصر الحارثي يرحمه الله ترك ما يقارب (30) بحثاً ودراسة، بعضها (موسوعي) مثل كتابه «الآثار الإسلامية في مكة المكرمة»، وكلها دراسات وبحوث جادة وعلمية رصينة، ما يعني أنه لم يكن كسولاً أو نائماً كما يحلو للبعض عند وصفه للأكاديميين السعوديين. هكذا إنتاج، وبهكذا صورة يجعل من صاحبه (مليونيراً) لا (مديونيراً) في البيئات المجتمعية المتقدمة. فدراسة واحدة مثل كتاب الآثار الإسلامية في مكة المكرمة تجعل من الدكتور الحارثي ملء السمع والبصر في مجتمع يعرف قيمة الجهد والجد والعلم الرصين. كما أنه يوفر له من الموارد المالية المستمرة ما يكفيه وأسرته مدى الحياة.
* المؤسسات البحثية والناشرة في مجتمعات متقدمة تعي قيمة الأعمال العلمية والمعرفية الجادة في كل حقول المعرفة الإنسانية؛ ولهذا فهي تتخاطف المبدعين والمنتجين، وتوفر لهم الدعم المادي والمعنوي، بحيث يستغنون عن كل شيء عدا البحث والإنتاج العلمي. أمَّا نحن هنا في مجتمعنا المحلي فأقولها بصوت حزين (ابتلينا) بذهنيات إمَّا متعصبة للتخصصات التطبيقية، ولا تؤمن بقيمة التخصصات الإنسانية، وتظن أنها لا تستحق الاهتمام، أو بمؤسسات لا تدرك إطلاقاً ماهية العلم وأهمية الدراسات والبحوث المتخصصة، وكل همها الترفيه وكتب الطبخ.
* ولكل الذين (يغبطون) الأكاديميين على (كبر عينهم) أقول إن الأستاذ الدكتور ناصر يمثل حالة من النماذج على ما يعانيه زملاؤه أجمعون في مطاردة الحياة، ومع ذلك لا يتوفر لهم ولأسرهم ما يتمتع به هوامير الأسهم والعقار، وموظفو مؤسسات خاصة وشبه خاصة. ورحم الله الصديق الحارثي، فقد كان (عالِماً) بحق وحقيق في مجال الآثار، وباحثاً مميزاً سيبقى ذكره طويلاً في الأوساط الأكاديمية والعلمية، ورعى الله أسرته وأبناءه من بعده حتى وإن لم توفر لهم دراسات وبحوث والدهم ما كان يمكن أن يتحقق لهم لو أنهم كانوا في بيئة أخرى.
المدينة 30/10/1430هـ