الحجاز القديم.. والاختلاط في التعليم الأوَّلي..!
هناك قرارات اُتخذت في غفلة مِن الزَّمان، وفي استدارة مِن المكان، ولكن هذا ليس عُذراً لها؛ لتكون مُسيطرة على البشر في كُلِّ الأزمان، بل يحق لنا مُساءلتها ومُجادلتها، حتى نصل إلى تغييرها أو إلغائها!
خُذ مثلاً.. الاختلاط في التَّعليم في الصّفوف الأولى، -أعني مِن الصَّف الأوّل حتّى الصَّف الثَّالث الابتدائي-، كان هذا القرار مُطالباً به منذ بداية الثمانينيّات!
والآن.. ها هي الأخبار تحمل لنا الخبر التَّالي الذي يقول: (السَّماح للمدارس الأهليّة للبنات بتسجيل طُلَّاب الصّفوف الأوليّة في مدارس البنات، ويقوم بتدريسهم مُعلِّمات مُختصَّات، فيما تم تطبيق ذلك في 10 مدارس أهليّة في جُدَّة)!
وقد حاولتُ أن أجد نصًّا يؤيّد هذا القرار الأخير، فلم يَخب ظنِّي في شيخي العلَّامة «أحمد إبراهيم الغزَّاوي»، وسأضطر لنقله كاملاً، لما فيه مِن أهميّة تاريخيّة، ولغة إيجابيّة، ودقَّة لفظيّة!
يقول الشّيخ: (كانت الفتاة الصّغيرة –منذ عرفنا الحياة- تأخذ بنصيبها مِن التَّعليم الأَوَّلِي في «الكُتَّاب» -بضم الكاف وتشديد التَّاء- وتقوم بالتَّدريس فيه امرأة حازمة مهيبة، ذات سمعة حسنة، وفتوح وتوفيق، ويُطلق عليها «الفقيهة»، وكان مِن حق الطّفل الصّغير أن يُشارك البنات - مع أخته - في التَّلقِّي؛ إذا كان فيما دون العاشرة مِن عمره، وكانت الكَتَاتيب -مِن هذا القبيل- لا تكاد تخلو مِنها محلة في مكَّة أو جُدَّة، أو المدينة أو الطَّائف، وكُلّ ما يُدرس بها ينحصر - أولاً وقبل كُلّ شيء - في (فَك الحرف)، ويبدأ بالتَّهجِّي ويتطوّر إلى القراءة والحفظ، ومعرفة ما لا غنى عنه، مِن أمور الدِّين والعبادات، مع الخط والإملاء ومبادئ الحساب، وكُنَّا نرى أسرابهنَّ مُغدفات بما سُمّي (الغُدْفة)؛ التي تحجب الوجه كُلّه؛ ولا يبدو مِن الصّبية أو الفتاة، حتى أطراف يدها فإنَّها تستره بالملاءة أو الملاية.. وتحمل في يدها صباح كُلّ يوم «القُفَّة» المزركشة التي تُصنع محليًّا، وتُحلَّى بألوان مِن الأخضر والأصفر والأحمر، ولها (دنادش) وشرافات، وتحتوي على ما تزوّد الأم ابنتها به مِن غذاء أو (تصبيرة)، أو حلوى أو فاكهة.. وبشيءٍ مِن (دُقة الملح المُبزّر)، وكسرة مِن الخبز أو (الشُريك) - بضم الشّين -، وهي بدورها لا تبخل على لداتها - صديقاتها - بما توفَّر لها وتعذر عليهن مِن نعمة الرَّغد أو الكفاف! وبما آثرت بشيءٍ مِن ذلك أو بأغلاه «الفقيهة والعرِّيفة»، جلباً لرضائها، واستزادة من عنايتها ورعايتها، مع الإغداق عليها بالأسبوعيّة التي تُسمَّى (الخميس)، وهو ما يُدفع مقابل ما تَبذل مِن جهد ومال، لاستئجار المنزل وتحضير الماء، واحتمال أعباء التَّربية والتَّفرغ لها، حتّى إذا بلغت التّلميذة الحد؛ الذي تتمكَّن معه مِن أداء فروضها، أو استطاعت أن تختم سوراً مِن القرآن غيباً أو نظراً، وفاقت قريناتها، مُنحت مِن أهلها (الإصرافة) أو (الإقلابة)، وأقيمت لها حفلة كُبرى، وطافت بها (مغدفة) ومقنعة صاحبة الشَّأن الأولى والعرِّيفات والطَّالبات، في مظاهرة أو مسيرة عامَّة، يُردِّدن فيها أناشيد الفرحة والغبطة؛ بتخرّجها ونجاحها، وتُوزّع فيها (حلاوة النَّبات) ذات الأكاليل الفضيّة أو الذَّهبيّة، أو السّمسميّة، أو (الإنبوتة) واللوزيّة، كُلّ في نطاق مقدرته واستطاعته، ويتقدَّم هذا الموكب بزميرة مِن جملة المعاشر والمباخر، والنّد والعود، مع إحاطته بالحراسة التَّامة، فإذا انتهى الحفل رجعت إلى أهلها، لتجد أمامها «المَنْسج» وقد شدت أواخيه، وتولّى تعليمها التَّطريز فيه كبيرات السّن مِن ذويّها، اللواتي يَجِدْن الحياكة والحبك، والتَّفصيل والخياطة، مع مباشرة الأعمال المنزليّة، مِن كنس ومسح ونظافة وطهي، واستقبلت عهداً جديداً يُؤهّلها لتكون «ربّة دار» تستقل بها، فلا تجهل شيئاً ممَّا عرفته قبلها الأم والعمّة، والخالة والجِدَّة، لتنهض بهذه الأعباء حال تُزف إلى عريسها المقبل، بالإضافة إلى الآداب العالية، والأخلاق الفاضلة، والصفات الجميلة، التي تجعلها محل التَّمنِّي لكُلِّ خاطبة تودّ لابنها الحياة الهنيئة الرَّاضية!
ولقد افتقدنا منذ حين هذه الغدفات والقُفَّات، وأغنى عنها ما عمّت به الغوارف، وفاضت به المعارف، وما نُحب أن نبخسها حقَّها مِن التَّقدير والتَّشجيع، قد برهن على مواهبهنّ، وشغفهنّ بالعلم والثَّقافة، في أرقى المستويات، وإنَّما هي مجرد ذكريات.. تُدوَّن في سجلهنّ المُضيء، وما أعظم الغبطة بهنّ في نبوغهنّ، وعفافهنّ وطهرهنّ، وحيائهنّ وتهذيبهنّ)!.
المدينة 5/11/1430هـ