احذروا ذنب مكة..!
مكة المكرمة -في أصل تكوينها الجغرافي- وادٍ يقع بين جبلين هما: خندمة، وفي جزء منه يتشكل جبل أبي قبيس، والجبل الآخر هو قُعيقعان من قعقعة السلاح؛ لأن جُرهم كانت تخبّئ فيه أسلحتها. فخندمة وقعيقعان هما أخشبا مكة، وهذا جعل من هذه الأرض المباركة واديًا يُعرف بوادي إبراهيم، نسبة إلى خليل الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام حينما نزل بمكة في القصة المعروفة. ولذلك فإن مخاوف الدولة، وأهل مكة تتنامى مع تقارب موعد الوقوف بعرفة، واستهلال حركة التصعيد للحجاج بسبب ضيق الطرقات، وزيادة عدد الحجاج والمركبات، رغم المحاولات المستمرة التي نهضت بها الدولة في فتح الطرق الجديدة، بإنشاء أنفاق وجسور مكلّفة استُرْخِصَتْ في سبيل أداء هذا الركن الخامس من أركان الإسلام.
فحرارة الجو في مكة تسهم في بعض الأحايين في نشوب حرائق تستدعي مسارعة رجال الدفاع المدني لإخمادها. كما أن الحالة الصحية للحجاج، خاصة كبار السن، وتعرّضهم لضربات الشمس، أو النوبات الصحية المختلفة تستدعي مبادرة رجال الإسعاف إلى إنقاذ حياتهم، وانتشالهم إلى أقرب مستشفى، ولا يستطيع أحد أن يتوقع ما يند عن التخطيط والاستعداد المسبق؛ فلذلك يتوق أهالي مكة دائمًا، والحجاج كذلك إلى رؤية الطرق سالكة، والوصول إلى الهدف ميسورًا، وهو ما لا يتحقق إلاَّ بسيادة النظام، والاستجابة والتفاعل من قِبل الحجاج والمواطنين. والمؤسف أن الحاج الإيراني قد ابتدع منذ عقود بدعة سيئة، وحاد عن الهدف المرسوم للحج بتبني فكرة قيام الحجاج الإيرانيين بمسيرة في الخامس من ذي الحجة، وهو زمن تكتنف فيه المدينة المقدسة صعوبات التنقّل بين مكة والمشاعر في عرفات والمزدلفة ومنى، وتعوق هذه المسيرات سيارات الإسعاف، والدفاع المدني، وصهاريج إيصال المياه، وحافلات الحجاج، وعربات نقل السلع والأغذية؛ ممّا سبّب ضيقًا للأهالي والحجاج، وزاد من وتيرة التخوّف من وقوع كوارث وحوادث..
الجميع في غنى عن وقوعها. وحرصت الدولة في البدء على معالجة الوضع بالأناة والرويّة، والحكمة/ وحينما عزف الإخوة الإيرانيون عن الإصاخة والإصغاء لمقتضيات العقل والمنطق، تعاملت معها الدولة بحزم وحسم قاطعين، لوأد مثل هذه السلوكيات الشاذة في تحويل عرصات العبادة، وساحات السجود والطاعة إلى ميادين لرفع الشعارات السياسية الجوفاء، دون أن يكون لها مردود يُذكر، أو صدى يُؤثر، وإنّما يضاهي ما جسّده الشاعر بقوله: كالهر يحكي انتفاخًا صولة الأسد
ومحاولة التفكير في إعادة مثل هذه السلوكيات يجب أن يتصدى لها كافة العالم الإسلامي من علماء، وسياسيين، ومفكرين، وكتّاب. فلقد نص القرآن على الأسلوب الأمثل في أداء هذا الركن بقوله تعالى: (فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج).
إن مَن يفد إلى مكة المكرمة بغرض أداء فريضة الحج يدخل في حرمات ثلاث:
1- حرمة المكان (مكة المكرمة). 2- حرمة الزمان (الأشهر الحُرم). 3- حرمة النُّسك (أداء الفريضة). فالرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يقبل من أحد صحابته في يوم فتح مكة عبارة (اليوم يوم الملحمة)! فقال صلى الله عليه وسلم: بل اليوم يوم المرحمة. وقال في حجة الوداع: (إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا. ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع).. اتحاف الورى بأخبار ام القرى للنجم عمر بن فهد، تحقيق فهيم شلتوت، نشر مركز البحث العلمي بجامعة أم القرى 1/576، وروى عبدالله بن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن الله حرّم مكة، فلم تحل لأحد قبلي، ولا تحل لأحد بعدي، وإنما أُحلّت لي ساعة من نهار، لا يُختلى خلاها، ولا يُعضد شجرها، ولا يُنفّر صيدها، ولا تُلتقط لقطتها إلاَّ لمعرّف).. متفق عليه. ولذلك وظف شاعر الغزل ذلك المعنى بقوله: كظباء مكة صيدهن حرام ولم يبح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأهل مكة إلاَّ الأِذْخِر (سنه ريع ذاخر في مكة المكرمة) لقبورهم، وبيوتهم، وصاغتهم، وقينهم، استجابة لطلب العباس -رضي الله عنه-.
وفسّر ابن عباس -رضي الله عنه- الإلحاد في قوله تعالى: (ومَن يُرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم) بأن الالحاد هو احتكار السلعة، كما أن التغليظ في أمر المعصية أو الذنب بمكة بلغ من التخويف منزلة لا يقوى عليها أحد. إذ إن مَن همَّ بمعصية، أو خطيئة ببلد ما، وعزف عنها، ولم يقترفها كُتبت له حسنة، إلاّ مكة المكرمة.. فمَن همّ بها أو خارجها بمعصية فيها كُتبت له خطيئة حتّى قيل: لو همّ بمعصية وهو بعدن وأبين كُتبت له معصية! ومعلوم أن عدن وأبين تقعان جنوب الجزيرة العربية، ولكنهما من البُعد -آنذاك- ما يُقاس عليهما -حاليًّا- بأستراليا ونيوزيلندا. لن تُسعف هذه العجالة في تبيان فضائل مكة، والإشارة إلى حرمتها، ولكنها ومضة لإيقاظ كل جفن غافٍ لما قد يتوارى عن بعض الأفهام في بعض الأوقات للتنبيه والتحذير، وحريٌّ بمَن يمنع المعترضين من التظاهر على أرضه أن يجلَّ بيتَ الله وموضعَ حرمه عن أن يُنتهك بمسيرات، ورفع شعارات لا تُسمن ولا تغني من جوع. إن إيران ستخسر تعاطف العالم الإسلامي إن هي أصرّت على موقفها، وهي تعاني من حصار خارجي، وتصدّع داخلي، فخليق بها أن تبادر بحُسن النوايا، فالمرحلة تستوجب الالتفاف، وتنبذ الخلاف.. والأمة الإسلامية في عوز لمَن يسدُّ ثلمة، لا مَن ينقض بنيانًا.. والله الهادي إلى سواء السبيل.
* رحمك الله يا صالح
هاتفني ابني أويس بوفاة صديقه صالح فيدة، الذي تُوفي في حادث في نيوزيلندا بعد اتمام دراسته الجامعية، وذهابه للحصول على دوره في اللغة الإنجليزية. لم أستطع نسيان صورته وهو يفد إلى منزلي للاستذكار مع صديقه أويس، وظل أويس وزملاؤه وشاطرتهم في وحدتي يعايشون ذلك الشعور من الأرق والحزن، وأنا أتخيّل ذلك الجثمان الذي لم يصل بعد، وقد كان بالأمس يبتسم في وجهي، وخامر شعور الحزن جلّ -إن لم يكن كل- سكن أعضاء هيئة التدرس بالجامعة؛ لأننا فقدنا ابنًا من أبنائنا، عوّضه الله الفردوس الأعلى، ودارًا خيرًا من داره، وأهلاً خيرًا من أهله، وعروسًا من الحور العِين، وعوّض أهله، وأصدقاءه أجر الصابرين المحتسبين.
المدينة 11/11/1430هـ