الحج والعبادات والتعامل مع الناس

خرج رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ وخرجت معه زوجته خديجة إلى غار حراء حتى كانت الليلة التي أكرمه الله فيها برسالته فجاءه جبريل وطلب منه أن يقرأ وهو الأمي وانتهى اللقاء بنزول: (اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ...)، ويقول المصطفى: ثم انتهى، فانصرف عني وهببت من نومي فكأنما صور في قلبي كتابا، ولم يكن في خلق الله عز وجل أحد أبغض إلي من شاعر أو مجنون فكنت لا أطيق أنظر إليهما، فقلت: إن الأبعد ــ يعني نفسه ــ لشاعر أو مجنون، ثم قلت: لا تحدث بها عني قريش أبدا، لأعمدن إلى حالق من الجبل فلأطرحن نفسي منه فلأقتلنها فلأستريحن، فخرجت ما أريد غير ذلك فبينا أنا عامد لذلك إذ سمعت مناديا ينادي من السماء يقول: يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل، فرفعت رأسي إلى السماء أنظر فإذا جبريل عليه السلام في صورة رجل صاف قدميه في أفق السماء فرفعت أنظر إليه وشغلني عن ذلك وعما أريد، فوقفت وما أقدر على أن أتقدم ولا أتأخر، وما أصرف وجهي في ناحية من السماء إلا رأيته فيها، فما زلت واقفا حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي حتى بلغوا مكة، ورجعوا فلم أزل كذلك حتى كاد النهار يتحول، ثم انصرف عني وانصرفت راجعا إلى أهلي حتى أتيت خديجة فجلست إلى فخذها مضيفا إليها، فقالت: يا أبا القاسم ‍‍‍‍ أين كنت؟ فوالله لقد بعثت رسلي في طلبك حتى بلغوا مكة ورجعوا، فقلت لها: إن الأبعد لشاعر أو مجنون. فقالت: أعيذك بالله تعالى من ذلك يا أبا القاسم، ما كان الله ليفعل بك ذلك مع ما أعلم من صدق حديثك، وعظم أمانتك، وحسن خلقك، وصلة رحمك، وفي رواية: فقلت: لقد أشفقت على نفسي، فأخبرتها خبري، فقالت: أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبدا، ووالله إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتؤدي الأمانة، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.

والملفت أن السيدة خديجة لم تذكر انقطاعه عن الناس للعبادة في غار حراء الليالي ذوات العدد، ولكنها ذكرت خصائص شخصية كصدق حديثه، وعظم أمانته، وحسن خلقه، أو ذكرت خصائص تميز سلوكه مع الناس: كصلة الرحم، وحمله الضعيف، وإكرامه الضيف وأدائه الأمانة وإعانته غيره على نوائب الحق، ومجموع الصفات الأولى تفضي للثانية، فلا يستطيع من فقد السلام مع ذاته أن ينشئ سلاما مع غيره وتعدادها لمجموعة الصفات الأولى والثانية وتأكيدها عليها باعتبارها عربونا لكرم الله معه وأنه لن يخزيه أبدا إنما يشير إلى أنها وفقا لسلامة فطرتها ورجاحة عقلها إنما أكدت على حقيقة يغفلها الكثيرون وهي العلاقات مع الناس، وأيام الحج التي نعــيــشــهـا هي التي ذكرتني بهذه الواقعة، وهذه الأيام مناسبة عظيمة الأجر والمسؤولية والمـــشــقــة فالزحام والتنقل من مشعر لآخر خلال أوقات محددة يتطلب من الفرد الاستطاعة التي يبدو أنها ليست مادية فقط ولكنها نفسية فالخصائص التي ذكرتها السيدة خديجة وهي تطمئن نبي الأمة إلى مساندة الله له والمتعلقة بحسن علاقاته مع الناس، تندرج تحت الاستطاعة وإذا كانت السيدة خديجة تعتبرها أحد الأسباب المهمة لوقوف الله بجانب نبيه فكيف بنا نحن أتباعه ألا نحتاج إلى ممارستها مع غيرنا وبخاصة في هذه الأجواء التي تتطلب مثل هذه الأخلاق لجعل هذا النسك مناسبة تمزج فيها الطقوس التعبدية بالمعاملات مع غيرنا ممن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله بدل التخاصم والتجادل والغلظة على مكان في مسجد أو طواف أو سعي أو خدمة؟

عكاظ 3/12/1430هـ