الغارة على أحكام الحج
بهذا كله يسقط زعم نجيب المتهافت أنه لم يقل بركنيته إلاَّ الشافعي، كما يسقط كليًّا دعواه الباطلة أن السعي عند الجمهور سنّة لا شيء في تركه، أو أنه واجب لا شيء في تركه بعذر، ويُجبر بدم لغير عذر، بل عكسه تمامًا ما يقوله الجمهور.
لا أدري مَن المسؤول عن هذا المسلسل الرديء -تأليفًا وإخراجًا- الذي يظهر كل يوم ثلاثاء على صفحات “عكاظ”، حيث يمارس فيه الأخ نجيب هجومًا مركّزًا على العبادات التي يمارسها المسلمون، فالمعتمرون من أهل مكة مبتدعون، والصائمون الست من شوال بعد رمضان مبتدعون يأثمون، وأمّا المقبّلون للحجر الأسود في طوافهم فمشركون، واليوم نقرأ له أن السعي في الحج لا ضرورة له، هو سنّة إن تُرك بعذر، أو بغير عذر فلا شيء في ذلك، وأن كل ما فعله الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- من أفعال في الحج هدر، لا يُقتدى به فيها؛ لأنها لا تدل على الوجوب، ولا تبلغ حتّى حكم الاستحباب! هكذا يزعم نجيب. فطوافه للقدوم، وصلاته في الكعبة، وبدؤه الطواف من عند الحجر الأسود، ومبيته بمنى ليلة التاسع من ذي الحجة، وصلاته الخمسة فروض بدءًا من ظهر يوم الثامن وحتّى فجر التاسع من ذي الحجة، كل ذلك لا يدل في نظره لا على وجوب، ولا استحباب، هذا ما ينتهي إليه علم نجيب الغزير، ثم يقول -أصلح الله له الحال، وهداه إلى الخير-: ( يرى الناس الموت في السعي من شدّة الزحام، وما ذاك إلاَّ لاعتقادهم أن السعي ركن لا يصح الحج بدونه، وهذا تعميم غير صحيح، مع أنه ما قال بركنيته إلاَّ الشافعي بحديث مضطرب، وأحمد في رواية من ثلاث، أمّا الجمهور فالسعي عندهم أنه سنّة لا شيء في تركه، أو أنه واجب لا شيء في تركه بعذر، أو يُجبر بدم لغير عذر).
وهو كلام متهافت لا يصدر إلاَّ عن مثل نجيب. وكعادته السيئة يظن أن العلماء إذا ذكروا الأقوال في كتبهم، فإنهم يتبنون منها ما اختار هو منها من ضعيف، وشاذ، وما لا دليل عليه؛ ممّا يدفع إليه الهوى، وينقل عن الكتب ما يظن أنه يؤيد رأيه، ويهمل ما يكشف خطيئته ولو كان في نفس الصفحة، فالمردادي الذي نقل عنه الرواية الضعيفة المرجوحة عند الإمام أحمد أن السعي سنّة، والرواية الأخرى أنه واجب يُجبر بدم، أهمل كليّةً ما نقله المردادي أنه الرواية الثالثة، وهي أنه ركن هي القول الصحيح لأحمد، وهي المذهب، حيث يقول في الجزء الرابع ص58: (وأمّا السعي ففيه ثلاث روايات: إحداهنّ هو ركن وهو الصحيح من المذهب، نص عليه، وجزم به في المنور، وصححه في التلخيص والمحرر، وقدمه في الفروع، والرعايتين، والحاويين والفائق، ثم ذكر الروايتين الأخريين ولم ينتصر لهما، ويؤيد هذا أيضًا ما جاء في المغني لابن قدامة في الجزء الثالث، وفي الصفحة التي ذكرها نجيب 389 ونصه: (واختلفت الرواية عن أحمد أنه ركن لا يتم الحج إلاَّ به، وهو قول عائشة، وعروة، ومالك، والشافعي)، ثم ذكر دليلهم على ذلك، وعلّله بأنه نسك في الحج والعمرة، فكان ركنًا فيهما كالطواف بالبيت، ثم ذكر الروايتين الأخريين المرجوحتين. والكاساني في بدائع الصنائع يقول: (وأمّا واجبات الحج فخمسة: السعي بين الصفا والمروة، والوقوف بمزدلفة، ورمى الجمار، والحلق والتقصير، وطواف الصدر).
ويقول ابن عبدالبر من المالكية في الاستذكار: (قال الشافعي مَن ترك السعي بين الصفا والمروة في الحج، حتى يرجع فيسعى بينهما، فإن وطأ فعليه العود حتّى يطوف بينهما ويهدي، ثم قال: من قوله وقول غيره تأتي واضحة -إن شاء الله-، وقال أبو ثور في ذلك كله مثل قول الشافعي، وقال به أحمد، وإسحاق وهو قول عائشة -رضي الله عنها-: إن السعي بين الصفا والمروة فرض، وبه قال مالك، والشافعي، ومن ذكرنا معهم)، وقال الإمام النووي في المجموع عن مذاهب العلماء في حكم السعي: (مذهبنا أنه ركن من أركان الحج والعمرة، لا يتم الحج إلاَّ به، ولا يُجبر بدم، ولو بقي فيه خطوة واحدة لم يتم حجّه، ولم يتحلل من إحرامه، وبه قالت عائشة، ومالك، وإسحاق، وأبو ثور، وداود، وأحمد في رواية، وقال أبو حنيفة هو واجب، ليس بركن، بل ينوب عنه، وبهذا كله يسقط زعم نجيب المتهافت أنه لم يقل بركنيته إلاَّ الشافعي، فهذا وهم لا يقع فيه إلاَّ مثل نجيب، كما يسقط كليًّا دعواه الباطلة أن السعي عند الجمهور سنّة لا شيء في تركه، أو أنه واجب لا شيء في تركه بعذر، ويُجبر بدم لغير عذر، بل عكسه تمامًا ما يقوله الجمهور، ولا أدري إن كان نجيب فعلاً يقرأ المواضع التي تشير إليها مقالاته قبل أن ينشرها تحت توقيعه الذي يراه مهمًّا أم أنه يكتفي بما رسم له ثقة بمن جمع له ما ظنّه معلومات صحيحة، ثم ما هي الفائدة التي يجنيها نجيب والناس من هذا العبث المتوالي، وها هو ينسب إلى الإمام البخاري، وابن عاشور في تفسيره: (أن بعض الصحابة تركوا السعي في حجهم مع أبي بكر، ولم يأمرهم الرسول بإعادة الحج ولا بدم)، ولم يروِ البخاري ذلك، ولم يذكر القصة ابن عاشور، ولو عاد نجيب إلى تفسيره (التنوير) من ص61 وحتى ص65 من الجزء الثاني لتبيّن له عظيم خطيئته، وإنما ذكرا حديث عائشة -رضي الله عنها- الذي رواه البخاري عن عروة أنه قال: سألت عائشة فقلت لها: أرأيت قول الله عز وجل: (إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوّف بهما).. فوالله ما على أحد جناح أن لا يطوّف بالصفا والمروة، قالت: بئس ما قلت يا ابن أختي، إن هذه لو كانت كما أوّلتها عليه كانت (لا جناح ألاَّ يطوّف بهما)، ولكنها أنزلت في الأنصار كانوا قبل أن يسلموا يُهلِونَ لمناة الطاغية، التي كانوا يعبدونها عند المشلل، فكان مَن أَهلّ يتحرّج أن يطوّف بالصفا والمروة، فلمّا أسلموا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله كنا نتحرّج أن نطوف بين الصفا والمروة، فأنزل الله: (إن الصفا والمروة من شعائر الله... الآية)، وحتمًا ليس في هذا الأمر من عائشة -رضي الله عنها- مخالفة للصحابة في حكم السعي كما توهّم نجيب، وله موقف منها لا ندري ما الدافع إليه، كما أن له موقفًا غريبًا من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فمرة يرد روايته أنه رأى رسول صلى الله عليه وآله وسلم يقبّل الحجر الأسود، ومرة بالتعريض به، وكأنه يرضى بزنا الحرة في قوله: وقد بذلت امرأة بضعها لراعٍ في الصحراء لتنقذ نفسها من الموت عطشًا، ولم يؤاخذها ابن الخطاب، وأسند هذا إلى الشاطبي في الموافقات، وقصده ما أخرجه البيهقي في سننه عن أبي عبدالرحمن السلمي قال: أُتي عمر بن الخطاب بامرأة جهدها العطش، فمرّت على راعٍ فاستسقته، فأبى أن يسقيها إلاَّ أن تمكّنه من نفسها.. ففعلت، فشاور الناس في رجمها، فقال علي -رضي الله عنه-: هذه مضطرة، أرى أن تُخلي سبيلها ففعل، والحكم مستقر أن مَن أُكرهت على الزنا بملجئ يؤدّي إلى الهلاك لم تُعاقب، ولم يُجرَ عليها الحد، لعموم الأدلة على أن الإكراه مسقط للإثم، وهذا كالذي قبله لا علاقة له بحكم السعي، كذا التلويح برضاعة الكبير، وأمّا فعله -صلى الله عليه وآله وسلم- فالمتفق عليه أنه من سنته، وهي مصدر للأحكام الشرعية كالقرآن، أمّا دلالته على الوجوب فيعود إلى القرائن الحافة به، ولكن نجيب -هداه الله إلى الخير، دائمًا- يهوى ترديد العبارات دون فهم، وينسب إلى العلماء ما ليس لهم بقول، وإنّا لفي حيرة من أمره، ما الذي يريده بكل هذا العبث! فهلّا كفّ عن ما لا نفع فيه له وللناس؟ هو ما أرجوه. والله ولي التوفيق
المدينة 6/12/1430هـ