أصول الثقافة الحديثة في مكة المكرمة استدعاء الذاكرة وانتظار الحلم

الأربعاء, 17 فبراير 2010
 
 

أحسب أن الكتابة في التاريخ الثقافي لا تنساق على النحو الهين. تفتقر إلى تجربة محلية ناجحة يبني الكاتب على تماسكها أو انقاضها، ومعظم التجارب العربية تعثرت بغواية الأيديولوجيا، مما جعل من التاريخ الثقافي: تاريخ معارضة لا تاريخ ثقافة. إن التاريخ الثقافي أكثر تعقيدًا وأشد غموضًا من التاريخ السياسي والاقتصادي، وذلك لأن: “مسائل التاريخ السياسي إنما تتصف في العادة بالوضوح المباشر، فالدولة مثلاً أو أي جزء فيها أو وظيفة لها، تعتبر شيئًا محدّدًا لا يخطئه فهم كل من تقدم لدراستها متخذًا منها أداة لأبحاثه التاريخية، وهكذا الشأن أيضًا على أية مجموعة من الأحداث داخل هذه الكيانات. ويصدق الوضع أيضًا على حالة التاريخ الاقتصادي”، والموقف يختلف بالنسبة للتاريخ الثقافي، فإن هدف التاريخ الثقافي هو الثقافة. وهذا المفهوم وهو شيء عصري في المحل الأول ويكاد يكون شعارًا أو كلمة السر لزماننا هذا، سيظل تحديده بالغ العسر دائمًا. إذ من المحقق أن في إمكان المرء منا أن يضع أسئلة في التاريخ الثقافي الحضاري يتصف محتواها وفحواها بوضوح المعالم، على أن الإجابة لا تنتج التاريخ الثقافي، أجل توجد فيه الدولة والتجارة باعتبارها صورا ماثلة للعيان، ولكنها توجد أيضًا حافلة بتفاصيلها، فأما الثقافة فلا توجد إلا كصورة ماثلة فقط (يوهان هويز نجا: أعلام وأفكار – ص30-31).
وأن يكون التاريخ الثقافي لمكة المكرمة فهو إشكالية كمتاهة المرايا. فمكة – في الشأن الدنيوي – ثالثة المدن بعد (أثينا وروما) التي أنجزت هويتها الحضارية المفارقة. مكة مدينة عالمية يتعذر فصل تاريخها الخاص عن العام، ويستعصي تحقيب زمنها، فهو كوني البداية ولا نهائي. مكة هي المكان والمكانة، هي أم القرى، أم المدائن. عاشت في ظل القبيلة والنبوة والخلافة والولاة والأسر والدولة (وفيّة للمعنى الديني الذي خصّ اللّه به بيتها العتيق) وإذا كان الناس قد ألفوا (فيما عهدوه من أمر مكة المكرمة صورة واحدة لا تكاد تبرحها، فهي البلد الحرام، حيث البيت العتيق الذي تتجه إليه قلوب المسلمين، في اليوم والليلة، خمس مرات، وإلى بيتها المحرم يحج المسلمون) فلم يكن العثمانيون يرون في الحجاز إلا جزءًا قاحلاً وكثير المشاكل في إمبراطوريتهم. وإذا كان السلطان عبدالحميد الثاني اهتم بالحجاز مدة خلافته فلأنه يتوسّل مشروعية لفكرة: جامعة إسلامية شاملة “أما الملكة فيكتوريا، فلم يكن الحجاز بالنسبة لها إلا مكانًا يذهب إليه – كما كتبت مرة إلى سلطان تركيا – الألوف من رعاياها فيحتملوا أشد الآلام والمشاق أثناء أدائهم فريضة الحج (جيمس موريس : الهاشميون- ص16).
ومع هذه الندرة في كتابات التاريخ الثقافي وتمايزاته عن السياسي والاقتصادي، والصورة النمطية لمكة المكرمة، وإهمال الشأن الدنيوي للحجاز يدون الباحث حسين بافقيه تاريخ مكة الثقافي فيما (تحدر إليه من كتب التواريخ المكية، وقرأه فيما انتهى إليه من كتب التراجم والطبقات والفهارس والمشيخات والمسلسلات والأثبات والبرامج) فهل هو تحول في حظوظ الكتابة ظهر نهاية حقبة اعترضت السياق التاريخي والاجتماعي، وتركت من (القبول والممانعة) مشهدًا ثقافيًّا لا على مستوى إنتاجها فحسب، بل على مستوى تداولها ورهاناتها؟! يبدو كتاب: ذاكرة الرواق وحلم المطبعة – أصول الثقافة الحديثة في مكة المكرمة (1101- 1384هـ 1689- 1964) للباحث حسين محمد با فقيه، فاتحة هذا التحول (من التاريخ العبئ إلى التاريخ الحافز) غير أن الاعتراف بهذا الاستحقاق يبقى رهين التفاوت بين نوع ودرجة المفاهمات بين خطابات قارة في مشغل الاختلاف والائتلاف، تحتكر كل منها نصها الخاص ومسوغات حضورها. وبما أننا لا ندعي إقامة افتراضات الكمال فسنترك المداولة مفتوحة فيما اختصموا عليه: فإما هو منجز الحداثة ويحسب لها لاندراجه أساسًا في حركية البحث المسعورة عن تأسيس مشروع فكري موازي وغالب، وإما هو خروج متعمد على مشروع ينهض في أنبنائه على إزاحة أنماط ثقافية واستبدالها بنمط من ألوان الكتابة وأشكال التعبير ضمن مساحة شاسعة من التنظير والإشكالية وعلى نحو حصري وعازل، وإما هو مشروع جديد اشتغل عليه الباحث موظّفًا مكونه من المنهجية والمرجعيات ومؤسّسًا لإصلاحية تحديثية في نظم الكتابة في حقل معرفي جديد على المشهد الثقافي السعودي، أو هو أخلاط من هذا وذاك؟ أزعم أنه مشروع جديد، منفلت من زمن أدركته الشيخوخة مبكرًا. ويتماثل الكاتب بالكتاب في الصيرورة التاريخية والتحول الثقافي. فقد تغذّى الكاتب من منجز الحداثة في تعدد المناهج وآليات القراءة، واصطفى من المنظومات المعرفية قوام يقظته من (رجة الوعي) إلى (الذهنية النبيلة) ومن ثم تعززت نوازعه للإصطفاف على محطة مهمة ضمن تواصل تاريخي غير منقطع وإن غاب عن المشهد على النحو العصي على الحساب والإدراك. ولم يكن الكتاب إلا الصياغة الملائمة لغمر الذات في دواخل تلك المهاد.
ومن مطالعة غير مجهدة لمنجز هذا الشاب ترصد الأفكار الثاوية في النوايا، والإرهاصات المتتابعة لمشروعه الجديد إبتداء من: الجوائز الأدبية – الحدود والأقنعة (1420هـ 1999م) إطلالة على المشهد الثقافي في المملكة العربية السعودية (1426هـ - 2005م) طه حسين والمثقفون السعوديون (1430هـ - 2009م) ثم ما نميل إلى تصنيفه على أنه محدد معيارية التقييم لمخرجات العام 2009م فقيمتها تقاس عليه من حيث: فرادته في استعادة الصورة الأولية لانطلاق ثقافتنا، وفك الاشتباك بين التراث والتاريخ والدين والهوية، والتعامل مع الخطابات بوصفها قيمة فكرية وليست قاعدة معرفية، وركائزه من جماليات اللغة وما يفيض عن (172) من المخطوط والمطبوع. وظني أن هذا الكتاب سيشكل سلطة مرجعية، وعبئًا على النسق الثقافي السائد، واحتمالاً مفتوحًا على المماثلة والنظير. يتحرى الكتاب مساهمات الفقهاء والعلماء والأدباء في الثقافة المكية في الفترة (1101-1384هـ = 1689-1964م) وبما أنها زمنية غير منقطة عن جذورها، وغير متوقفة في امتداداتها فقد تقصى الكاتب روافدها الأولى على النحو الجاد والحصيف، وأبان عن تحولاتها الثقافية في ظل سيرورة اجتماعية نشطة، واستشرف بمنظار العارف آفاق هذا التحول على هوامش تاريخ بدأ قويًّا في استعراضه، طموحًا في مقاصده، واثقًا من تدوينه ومكافأته. وهو في تعاطيه مع مواده لم يكن انتقائيًّا ولا متساهلاً، فإن كان قد أطرى التعايش بين الأجناس والأعراق وبين المذاهب والأفكار، فلم يغفل التنافس الذي يذوي حينا ويشتد آخر بين المشيخات الدينية وقيادات الفتوى وكراسي الوعظ.
إن هذا الكتاب جدير برعاية النخب المكية والمؤسسات الثقافية، وهي إن لم تفعل فلسوف يبقى التوجه التسليمي لمقولة تشرشل: في وسعك أن تدخل إلى الشهرة من أحد بابين كتب على أحدها (افتح) وعلى الآخر (اسحب)!!

 

المصدر : ملحق الأربعاء بجريدة المدينة - الأربعاء 3/3/1431هـ .