في ذكرى رحيله الأولى قبس من المضواحي

 

عام كامل يطوى اليوم على رحيل مدير التحرير وكبير مراسلي «مكة»، الزميل عمر المضواحي. وإن كانت الصحافة السعودية والمكية قد فقدت أحد أبرز صحفييها، فإن مكة الأرض ومكة الصحيفة هما الأكثر استشعارا لهذا الفقد.

قال عمر ذات عشق لهذه الأرض المباركة «الموت في مكة حياة»، وكأنه كان يعلم أن ساعة الرحيل قد اقتربت، وعلى الطريقة نفسها التي تاقت روحه إليها.
هنا ننشر قبسا من أبرز قصص المضواحي المنشورة في الصحيفة بين عامي 2014 و2015:

- بعد أن سار الفريق في اتجاه مكة، انتهى به المطاف عند قمة جبل خندمة، حيث كانت «بلدوزرات» تأكل في نهم واضح جسم صخوره. وكان أنين الجبل وتوجعه حسيا لا تفهمهما قوارض الحفارات ولا عمال الإزالة. ويعجز الناظر عن وصف نشاط وحركة الحفر والهدم الذي أزال وإلى الأبد الجزء الذي كانت فيه أول معالم ومرابع طفولة وصبا وحياة النبي محمد صلى الله عليه وسلم في مكة لأكثر من 53 عاما قبل هجرته إلى المدينة المنورة.

لم تعد هناك شعاب بني هاشم حيث كانت بيوت النبي وآله وأصحابه السابقين في الإسلام. ولم يستطع خندمة بكل صلادة حجارته الجرانيتية الصمود أمام حفارات تنخر بأسنانها الفولاذية ذاكرة وذكرى المكان الذي تعطر بسيرة ومسار مكة النبوية.

- بالعودة إلى تاريخ حفظ مواد وأدوات مراسم غسيل الكعبة المشرفة، نجد أنها تشمل الفائض من عبوات دهن الورد الطائفي والعطور المستخدمة، إلى جانب الأقمشة القطنية والمقشات الخشبية والمساحات والأدوات المستخدمة في الغسيل، وكانت تحفظ في غرفة خاصة بكبير السدنة ضمن الخلاوي المخصصة سابقا في بدروم المسجد الحرام. كما يتوفر صندوق رخامي خاص لحفظ بعض متعلقات مواد الغسيل في جوف الكعبة المشرفة على يمين الداخل من بابها الرئيس، وموقعه بين العمودين الأول والثاني من الأعمدة الثلاثة التي وضعها الصحابي عبدالله بن الزبير كدعامات لسقفها الأول.

- كان أهل مكة ولا يزالون يصفون أقدم مقابرها (المعلاة) بالجنة! وهو وصف روتيني اعتادوه في أرض اليباس المقدس، فمكة على واد غير ذي زرع، لكنها مدينة الله والجنان والملائكة، وتاريخها معلق دوما بتفاصيل وآيات بينات خصت بها دونا عن مدائن العالمين.

فمكان الكعبة المشرفة في أدبياتها المسلم بها، خيمة من خيام الجنة، ومقام إبراهيم والحجر الأسود من يواقيت الجنة، وزمزم نبع ظاهر لا يغور ماؤه حتى قيام الساعة، وهو نهر من أنهار الجنة، وأعلام حرمها تحفها أجنحة 70 ألفا من ملائكة الجنة!

- الموت في مكة.. حياة.. وما من بلدة في الأرض نسجت تاريخها من أساطير وغرائب الأولين، وحقائق أسفار المتأخرين، المؤكدة بآيات القرآن ومرويات السيرة النبوية، كما شهد تاريخ أم القرى وواديها المقدس عند بيت الله العتيق. لا بد أن يتوقف كل قارئ للحياة الاجتماعية (قديما) في مكة المكرمة أمام تفاصيل حكاية الموت وغواية الحياة، ويتأمل حقائقها المدهشة والمثيرة للاستغراب. كان المكيون يميلون إلى صناعة الحياة، وبث عروق زينة الدنيا ومباهجها من جذور النهايات، وكانوا يطرزون بها أياما معلومات في رزنامة كل شهر قمري، عدا أشهر موسم الحج، حيث يتفرغون في أيامها لخدمة ضيوف الرحمن.

كانت قلوب أهل الله وخاصته معلقة بأستار الكعبة والحطيم، وأياديهم تلهج بدعاء التوحيد ومسح الركنين والمقام، وخطوات أقدامهم تراوح سيرها بالتهليل فوق حصوات المطاف وبطاح المسعى تارة، وبالتلبية بين طرقات المشاعر المقدسة تارة، وثالثة أخرى بالذكر والذكرى إلى منازل السابقين في الفضل والولاية أنسا لهم واستئناسا بهم. ومع تعدد الأماكن والمنازل وربطها بالحياة اليومية، يبدو أن المكيين كانوا يجيدون قراءة التاريخ، برواية راو أو كشف عارف، ولهم فهم خاص بأسرار الأحداث ووقائع الأيام وربطها بسلة منافع روحية ومادية، ويخضعون دوما حابل الحياة ونابل الموت في معادلة حياتهم الأزلية، قصص البداية وحكايات النهاية. ومنهم ـ إلى اليوم ـ من يؤمنون حد اليقين بأن ثمة سرا ما يتعلق بوجود مرقدي أولى وآخر زوجات النبي؛ السيدة خديجة بنت خويلد والسيدة ميمونة بنت الحارث، في ثرى مكة المكرمة دونا عن بقية أمهات المؤمنين السبع في بقيع الغرقد.

- على سريره الأبيض، بدا كبير مكة وعين أعيانها، هادئا تكسو ملامح وجهه ومنابت لحيته البيضاء أنوار القناعة والاحتساب والرضا بقدر الله وألطافه السابغة. يستجيب لزائريه بصوت الحمد والرضا بقضاء الله وقدره، وشكر حاجب البيت العتيق كل من عاده في مرضه، وجميع من شمله في صالح دعائه، وكل من تمنى له مخلصا الشفاء العاجل.

وجريا على أقدم تقليد عائلي في الأرض، احتفظ كبير سدنة بيت الله الحرام وحامل سر الولاية الخالدة التالدة في حجبة الكعبة المشرفة، بمفاتيح البيت العتيق ومقصورة مقام إبراهيم عليه السلام، في عهدته وحوزته كما تقضي تقاليد العائلة القرشية منذ أكثر من 16 قرنا مضت في الجاهلية والإسلام.

- يوما بعد آخر، يتفاءل أهالي مكة المكرمة ومجاورو البيت العتيق بأن تعود روح الهوية المكية إلى التصاميم العملاقة لمشروع توسعة الملك عبدالله بن عبدالعزيز للمسجد الحرام وتطوير الساحات والمناطق المحيطة بها. إنهم يأملون وسط ورش العمل الضخمة الآن أن تعود مكة التي يعرفونها بتفاصيلها الروحانية البسيطة، وتنكب مسارات الدروب النبوية التي تقودهم في لحظات الطهر والتجلي إلى حمى البيت العتيق للطواف والصلاة في أروقته حول جنبات الكعبة المشرفة.

- أفواج من الرجال والنساء والأطفال من كل جنس ولون ولغة يأتون إلى جبل الرحمة في صعيد عرفات يوميا من ساعات الصباح الأولى وحتى مغيب الشمس، للوقوف على الصخرات الكبرى أسفل الجبل بالقرب من المكان الذي وقف وخطب عليه النبي صلى الله عليه وسلم في نحو 112 ألف حاج في حجة الوداع. يرفعون أيديهم بالدعاء والتماس بركة المكان بعد أن حملتهم الأشواق والذكرى لمشاهدة ومعايشة أماكن مأثورة ومتواترة لم يخل عن ذكرها القرآن الكريم وكتب السنة والمناسك والسير.

- على بعد نحو ميلين غرب جبل الرحمة في مشعر عرفات يلفت العابرين إلى حدود المشعر الحرام في مزدلفة، مساحة هائلة من الأرض مسورة بشبك حديدي يحمي عددا من المستودعات الضخمة، ومكاتب خشبية جاهزة، وأطنان من مواد البناء المختلفة الأشكال والألوان، وأرتال من قضبان السقالات الحديدية، وجميعها لا تمكن الناظر من رؤية أي شيء أو حركة داخل المكان.

في وسط الطرف الشرقي للموقع يظهر للعيان نموذج محاك للرواق العثماني في الحرم المكي، غير أنه أعلى ارتفاعا وبشكل ظاهر من النموذج الأصلي الذي بدأت أعمال إزالته منذ نوفمبر 2012 في الحرم المكي.

الموقع محصن بشكل كامل، وطوال 3 أشهر كاملة كان الفشل الذريع نتيجة حتمية لأي محاولة للدخول. وقبل أيام، جاءت بوادر الفرج، حيث بدأت المعلومات تتسرب ومن أكثر من مصدر موثوق تمكنوا من زيارة المكان الذي يكاد يكون أكبر معمل لترميم القطع التاريخية في العالم.. ورش عمل يقف وراءها مئات من الخبراء الأتراك والمختصين الذين يتعاملون مع كل قطعة بحذر ومهارة، وهم يفرغون كل خبراتهم على عمل سيبقى ما بقي بيت الله العتيق.

- كانت عينا الحارثي مرهقتين وتلمعان خلف زجاج إطار فضي صقيل وهو يرمق أثر معلوماته المحققة، واحدة تلو أخرى على مسامع الحضور إلى أن أعلن في أسى ظاهر: أيها السادة؛ للأسف الشديد أبلغكم أن بئر طوى الحالية ليس لها أصل يؤكد أنها مغتسل النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يثبت ذلك عندي بالدليل العلمي في شكل قاطع!

كادت يدا مرزا تلامس سقف الخيمة من فرط احتجاجه على هذه النتيجة الصادمة. وكان أول من رمى قفازه على حلبة النقاش وقام بالرد المدعوم بالنصوص التاريخية وخرائط المواقع الجغرافية والمصورات الجوية القديمة والحديثة في شكل أراح غالبية الحضور الذين كانوا يخشون أن تزال بئر طوى استنادا إلى طرح الحارثي.

المصدر : صحيفة مكة 1438/3/21هـ