أسواق مكة المكرمة عبر التاريخ

السوق: جمعها أسواق. والسوق، المحل الذي يتسوق منه، يبيع فيها الباعة، ويقصدها المشترون للشراء.
 وهي إما ثابتة مع أيام السنة، وإما موسمية، تعقد في مواسم معينة، فإذا انتهى الموسم رفعت. والسوق عبارة عن حوانيت، أو دكاكين أو موائد مبسوطة على الأرض، تعرض عليها البضائع. والسوق تؤنّث، ويقال: نفقت السوق: أي راجت , ويقال: انحمقت السوق: أي كسدت.
والمتتبع لتاريخ مكة وجغرافيتها ، يجد أنها كانت وادياً غير ذي زرع، لا ماء فيه ولا شجر، تحيط به الجبال الوعرة من كل الاتجاهات.
ولم يكن يُتصور أن تكون في يوم ما صالحة للحياة، لكن حكمة الله سبحانه وتعالى تجلّت في أن يجعلها قبلة الناس حين أمر سيدنا إبراهيم، وابنه اسماعيل عليهما السلام، بالهجرة اليها، فتحققت المعجزة الخالدة بتفجر عين زمزم بها، وبناء البيت العتيق (الكعبة) ليصبح مكاناً مقدساً يفد اليه الناس ركباناً ورجالاً، ليؤدوا فريضة الحج، فأصبحت مكة قبلة العالم ومحط الأفئدة.

وقد صور القرآن هذه المراحل في عدة آيات. يقول تعالى: (ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي اليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون).
وقوله تعالى: (أولم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون).
وقوله تعالى: (وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلداً آمناً وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفرفأُمتعه قليلاً ثم أضطره الى عذاب النار وبئس المصير).

هذه القدسية والخصوصية جعلت لمكة مكانة اقتصادية مرموقة عبر التاريخ، من خلال القوافل التجارية وأسواقها، ولكن المصادر لم تقف على تاريخ محدد لنشأة الأسواق بمكة. ويبدو أن القبائل التي كانت تحكم مكة قبل قريش (جرهم وخزاعة) لم ترجح موقعاً آمناً لإقامة الأسواق بها، مما يؤكد أن أمر الأسواق ظهر بمكة بظهور قبيلة قريش، خاصة في عهد زعيمها التاريخي قصي بن كلاب.

ازدادت مكانة مكة عندما قامت على أمرها قبيلة قريش، التي اشتهرت بتنظيماتها الإدارية وحنكة رجالها.
وقد ذهب أحد الباحثين الى أن تاريخ مكة الحقيقي يبدأ منذ تولي قصي بن كلاب القرشي أمر مكة، في منتصف القرن الخامس الميلادي تقريباً.
فقد قام قصي بعدة أعمال جعلت مكة مركزاً اقتصادياً مرموقاً. والمعروف أن مكة في عهد قريش أقامت علاقات متنوعة مع البلدان المجاورة لها كالطائف ويثرب، ومع بعض القبائل التي كانت تقطن على الطريق، لتحمي تجارتها، فحدث لها ما أرادت وازدهرت أسواقها.

جاء ذكر قريش صريحاً في القرآن والسنّة. فلا غرابة أن يصف القرآن قبيلة قريش وتجارتها في سورة قريش: (لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف، فليعبدوا ربّ هذا البيت، الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف).
وقد أشارت المصادر والدراسات الى مصطلح الإيلاف، وتجارة قريش، ورحلة الشتاء والصيف، وبيّنت دور قادتهم في بناء أحلاف  ومعاهدات مع قبائل ودول كبرى، لإبرام صفقات تجارية، كالروم والفرس واليمن والحبشة.


فأصبحت مكة بسبب اتفاقية الإيلاف موقعاً متميزاً على طريق التجارة العالمية آنذاك، مما ساهم في ازدهار أسواق مكة وتجارتها.
وردت في كتب السنّة عدة أحاديث في قبيلة قريش وفضلها ومكانتها، وهذا الأمر حددت له العديد من مصادر الحديث أبواباً وفصولاً.
بعد حملة أبرهة الحبشي لهدم الكعبة المعظمة، والمؤرخة بعام الفيل (570-571م) والواردة في سورة الفيل في قوله تعالى:
(ألم ترَ كيف فعل ربك بأصحاب الفيل، ألم يجعل كيدهم في تضليل، وأرسل عليهم طيراً أبابيل، ترميهم بحجارة من سجيل، فجعلهم كعصف مأكول).
زاد صيت القرشيين الذين لم يتصدوا لهذه الحملة متيقنين أن للبيت رباً يحميه، فحدث ما تيقنوه، وباءت الحملة بالفشل، مما زاد في مكانة مكة دينياً وارتفعت مكانة قريش، فاشتهروا بأنهم أهل الله، وولاة الكعبة، وجيران الحرم.

يمثل القرن السادس الميلادي بعداً اقتصادياً جيداً لقريش، حين أمسكت مكة بزمام التجارة في بلاد العرب، فطريق التجارة الذي يمر بها أصبح أكثر أمناً بعد اتفاقية الإيلاف، وأصبحت مكة في منأى عن الصراع الدولي القائم آنذاك بين الفرس والروم، وخاصة حين أخذت قريش مواقف حيادية تجاه الأطراف المتنازعة.

أشارت الدراسات الى أن مكة أصبحت بعلاقتها الخارجية وأحلافها مع المجاورين لها آنذاك، مركزاً تجارياً تعج أسواقها بالخيرات القادمة من الشام والحبشة وبلاد فارس. وظهرت منها شخصيات قرشية عظيمة، وأسر ثرية قبيل الإسلام، كعبد الله بن جدعان التيمي، والوليد بن المغيرة المخزومي، وأبي سفيان الأموي. كما كان للنساء نشاط ملحوظ في أسواق مكة، كالسيدة خديجة بنت خويلد التي كانت تمارس التجارة في سوق مكة الحزورة، وكانت معها أختها هالة، فكانتا تبيعان الأدم.
ومثلهما هند بنت عتبة التي كانت من النساء الشهيرات بمكة في عمل التجارة بالأسواق،
وكانت تصحب زوجها أبا سفيان، في رحلاته للتجارة.

صارت أسواق مكة قبل الإسلام وكالات مهمة للروم والأحباش، حيث ظهرت تنظيمات تجارية وتعاملات حسابية، وعملات ونقود، ومكاييل، استخدمت في تلك الأسواق، وقد أكد ذلك العديد من المصادر، خاصة الأجنبية.

اشارت المصادر الى أسواق العرب الموسمية القائمة في الجاهلية وطبيعتها، وما يهمنا منها: أسواق مكة.
فقد ذكر الأزرقي، وغيره من المؤرخين، عدة روايات عن مواسم العرب وأيامهم وتجمعاتهم بمكة وما حولها، ومفادها: إنه إذا كان موسم الحج، خرج الناس من عدة قبائل يوم هلال ذي القعدة، الى سوق عُكاظ، كل له مكانه، ورايته منصوبة، يضبط كل قبيلة أشرافها وقادتها ويتم بينهم البيع والشراء مدة عشرين يوماً. ثم يمضون الى سوق مِجنّة فيقيمون بها عشراً، أسواقهم قائمة، وإذا رأوا هلال ذي الحجة انصرفوا الى سوق ذي المجاز بعرفة، أقاموا بها ثماني ليال أسواقهم قائمة. وكان يحضر هذه الأسواق التجار ومن يريد التجارة.

وكان العرب لا يتبايعون في يوم عرفة ولا في يوم مزدلفة، ولما جاء الإسلام أحلّ الله لهم ذلك.
قال تعالى: (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم). وفي قراءة أبيّ بن كعب: [في مواسم الحج]، يعني: منى وعرفة وعكاظ ومجنة وذي المجاز، فهذه مواسم الحج. وقد وضع البخاري في (صحيحه) باب (الأسواق التي كانت في الجاهلية فتبايع بها الناس في الإسلام).

استمرت أسواق عكاظ، ومجنة، وذي المجاز، قائمة منذ الجاهلية الى الإسلام، ثم انتهت وتلاشت وخربت.فقد تركت عكاظ بعد أن جاءت فتنة الخوارج سنة 129هـ/ 746م، فخافوا من فتنة الخوارج.
ثم تركت مجنة وذو المجاز، واستغنى الناس عنها بأسواق مكة ومنى وعرفة.

مواقع أسواق عكاظ ومجنة وذي المجاز محل خلاف بين المؤرخين والدارسين. فسوق عكاظ كانت تقع بين مكة والطائف على محلتين من مكة، وعلى مرحلة من الطائف، وكانت تقع جنوب مكة الى الشرق،وكانت تعتبر السوق التجارية الكبرى للعرب وفيها تنظم القصائد وتقام العهود، ويباع الرقيق، وغير ذلك من الأمور المعاشية. وسوق مجنة كانت تقع بمر الظهران أسفل مكة قرب جبل يقال له الأصفر، وقد كانت سوقاً لكنانة، وهي على بعد بريدين (البريد اثنا عشر ميلاً). وذو المجاز كانت سوقاً لهُذيل عن يمين الموقف بعرفة،قرب جبل كبكب، خلف عرفات، مشرفاً عليها، وعلى بعد فرسخ منها.

أبرز المنتجات التي كانت متداولة في أسواق عكاظ ومجنة وذي المجاز كانت: الحبوب، والتمور، والأقط، والشحوم، والجلود، والأدم  الذي كان يباع بكثرة في سوق عكاظ ـ وبعض المنسوجات والثياب، والبرود بأصنافها كاليمانية، والخز العراقي، والقباطي المصرية،كما كانت الأسلحة تباع في تلك الأسواق كالسيوف والرماح والدروع، والحيوانات كالخيول، والطيب كالمسك والعنبر والبخور، والأصباغ كالحنة والكتم والزعفران.

بظهور الإسلام، وتوسّع البلدان، واستقرار الناس، وتحضر العرب، خفّت الأسواق الموسمية، وحلّت محلها الأسواق الدائمة، وكفى الله العرب مؤونة الترحال بين الأسواق. لكن الأسواق الموسمية كانت ولازالت مستمرة، وتركزت في مشاعر مكة، كمنى وعرفة.

الإسلام نظم العلاقات التجارية، ووضع معايير البيع الصحيح، وحرم الربا وحرم بعض البيوع التي كانت موجودة في أسواق الجاهلية عموماً ومكة خصوصاً, كان النبي صلى الله عليه وسلم ممن ينزل الى الأسواق ويتاجر بها, فقد كان يعمل في شبابه على تجارة السيدة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها.
كما كان صلى الله عليه وسلم يزور أسواق الموسم ويقوم بنشر دعوته ورسالته، فكان يحضر اسواق عكاظ، ويشهد ما بها من فعاليات.
حتى استنكر عليه كفار مكة نزوله بالأسواق، كما ورد بنص القرآن الكريم: (وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أُنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا).
وقوله: (وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق).

بعد عام الفتح، عام 8هـ/ 629م، واستقرار الإسلام بمكة، شهدت أسواقها الموسمية تراجعاً كبيراً، كما أن موسم الحج لم يعد فقط للقرشيين فقد كان الكثير من التجار من خارج مكة يشاركون في البيع بالأواق.
ذكر الفاكهي أن سوق (الحزْورة) بمكة دبّ إليها الضعف في أول الإسلام، بسبب نشأة الأسواق التجارية المتخصصة بجوارها.

كما نشأت في موضع الأبطح بمكة أسواق تجارية وحرفية. وقد كانت سوق الليل نشيطة في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه خلال القرن الأول الهجري/ السابع الميلادي، تنوعت أسواق مكة، وأصبحت تصنف حسب المهن.
ذكر الأزرقي عدة أسواق متخصصة بمكة، كسوق الغنم، الذي كان موجوداً في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأخرج الأزرقي بسنده عن ابن جريج قال: لما كان يوم الفتح، فتح مكة، جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على قرن مسقلة، فجاءه الناس يبايعونه بأعلى مكة عند سوق الغنم. وذكر محقق الكتاب أن سوق الغنم كان يقع في الوادي الواقع شرقي جبل الرقمتين، وكان يسمى سوق الجودرية.

اشتهرت أسواق مكة بالوزّانين الذين كانوا يستخدمون الفضة في أوزانهم، وقد أقرّهم رسول الله وشهد لهم بالوزن الراجح.
وازدهرت أسواق مكة خلال القرن الأول الهجري/ السابع الميلادي، ومما أسهم في انتشارها وازدهارها، مجموعة من الأسباب، منها:
ظهور عملة اسلامية خاصة ومتداولة بين المسلمين، واستيطان العديد من أهل البلاد المفتوحة بمكة، ووجود الموالي بكثرة، ووجود الرقيق الذين جلبهم الصحابة من بلاد شتى، والذين اشتغلوا في الأسواق، وكانوا أصحاب حرف متعددة.
كما كان لموسم الحج أثر كبير على حركة الأسواق بمكة حيث تزداد حركة الشراء والبيع.

انتشرت الأسواق بمكة في الغالب قرب أبواب الحرم، كما تأثرت حركة الأسواق بها خلال القرنين الأولين الهجريين/ السابع والثامن الميلاديين بعوامل عديدة، منها: الكوارث الطبيعية، كالسيول والأمطار، والعوامل السياسية، كالحروب والثورات، والأوبئة والأمراض وغيرها.
أسواق مكة التي كانت قائمة حتى منتصف القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي، ذكر الأزرقي منها ما يقرب من 30 سوقاً مثل:
سوق الليل، وسوق العطارين، وسوق الحدادين، وسوق الحذائين، وسوق الفاكهة، وسوق الرطب، وسوق ساعة وسوق الحمارين، وسوق البرامين، وسوق الحجامين، وسوق الصيارفة، وسوق القواسين، وسوق اللبانين، وسوق البزازين، وسوق الحطب.


كتبه : إبراهيم الأقصم .