الصفا والمروة .. من علو عقيدة هاجر إلى سمو إيمان الساعين
- سوق مسيل الصفا والمروة..
- بضاعة اللحم والتمر والسمن والحبوب
- 13 قرنًا والتراب فراشه والسماء سقفه.. وأول مظلة بسقف من الخشب
- استبدال درجات الصفا والمروة برخام محفور ومزلقان للصعود والهبوط
- الملك عبدالعزيز مهدّ المسعى للساعين وأمر بتبليطه بالحجارة المربعة
- الملك سعود يشهد احتفال «التوسعة» أمام باب أم هانئ
لا تزال قصص مسعى الصفا والمروة تتجدد من كثرتها ويتناولها الثقاة بروايات متباينة.. ومع قيام الكل بالأمر التعبدي وسعادتهم بالأشواط السبعة، بدءا من الصفا وانتهاء بالمروة لم يقف الكثيرون على الشكل القديم للمكان وأسواق الحبوب واللحم والتمر والسمن وسواها من الفواكه تتراص على الجانبين حتى كاد الساعون يشعرون بزحام الحوانيت، التي تعطل خطى سعيهم كما لم يقفوا أيضًا على الجهود التي بذلت - تباعا- حتى تحول البساط الترابي إلى بساط من الحجرالمربع وأعمال التوسعة، التي توالت في كل العهود حتى أصبح السعي ميسورا للجميع.. المدينة تستعيد الرحلة.
بطحاء مكة
المسعى.. طريق أو شارع شرق المسجد الحرام، يحده الصفا جنوبًا والمروة شمالًا.. والصفا والمروة جبلان بين بطحاء مكة والمسجد.. كذا في لسان العرب وقد أَمرنا الله سبحانه وتعالى عند أداء نسك الحج أو العمرة بالسعي بين الصفا والمروة سبعة أشواط بادئين بالصفا، فمن الصفا إلى المروة شوط، ومن المروة إلى الصفا شوط آخر، وهكذا سبعة أشواط منتهين بالمروة.. وكان بين الصفا والمروة مسيل فيه سوق عظيمة، يباع فيها الحبوب واللحم والتمر والسمن وسواها من الفواكه، والساعون بين الصفا والمروة لا يكادون يخلصون لازدحام الناس على حوانيت الباعة، وليس بمكة سوق منتظمة سوى هذه إلا البزازون والعطارون عند باب شيبة.
أصول التشريع
والسـعي بين الصفا والمروة أمر تعبدي لا نقاش في علته ولا في مـشروعيته، ولكن بعضًا من حكمته قد تظهر لمن تدبر أصول التشريع، وربما كان من حكمة السعي أن نتذكر به علو إيمان هاجر عليها السلام، فيسمو إيماننا بالله، وذلك عندما تركها زوجُها أبو الأنبياء إبراهيم مع ابنها إسماعيل عليهما السلام بواد لا زرع فيه ولا ماء، فقالت له : آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم.. قالت: إذًا لا يضيعنا..ظل المسعى على مدى ثلاثة عشر قرنًا ونصف القرن التراب فراشه والسماء سقفه.. وكان الذي يريد السعي يرقى على الصفا حتى يرى البيت، ويستقبل القبلة، ويدعو الله عز وجل، ثم يسعى ذاهبًا إلى المروة، وفي طريقه بعد الصفا بقليل، يلقى واديًا فتنصب قدماه في الوادي مهرولًا حتى يتجاوزه، ثم يستمر في سعيه إلى المروة، فإذا وصل المروة يرقى عليها حتى يرى البيت، ويدعو الله عز وجل، وهذا العمل هو ما فعله المصطفى صلى الله عليه وسلم.
فوق زمزم
روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: « ... ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه، حتى وضعهما عند البيت، عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء، فوضعهما هنالك، ووضع عندهما جرابا فيه تمر، وسقاء فيه ماء، ثم قفَّى إبراهيم منطلقًا، فتبعته أم إسماعيل، فقالت: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مرارًا، وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له: آلله الذي أمرك بهذا ؟ قال: نعم.. قالت: إذًا لا يضيعنا، ثم رجعت، فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه، استقبل بوجهه البيت، ثم دعا بهؤلاء الكلمات، ورفع يديه فقال:وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل، وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوى أو قال: يتلبط، فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه، ثم استقبلت الوادي تنظر، هل ترى أحدًا، فلم تر أحدًا، فهبطت من الصفا، حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها، ثم سعت سعي الإنسان المجهود، حتى جاوزت الوادي، ثم أتت المروة، فقامت عليها، ونظرت هل ترى أحدًا، فلم تر أحدًا، ففعلت ذلك سبع مرات، قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: فذلك سعي الناس بينهما».إبراهيم رفعت باشا قال: والمروة في الشمال الشرقي للمسجد الحرام، وهي منتهى المسعى من أصل جبل قعيقعان، وهي محل مرتفع كالصفا، يصعد إليها بخمس درجات فقط، بعدها مصطبة طولها أربعة أمتار في عرض مترين، بعدها مصطبة أخرى عرضها متر واحد ملاصقة لجدار المروة الشمالي، إذ حولها ثلاث جدر في شماليها وشرقيها وغربيها، والدور من وراء ذلك، ومن دون الدرجات الخمس عقد شاهق من الجدار إلى الجدار، وهو بعيد عن مبدأ الدرج من أسفل بنحو مترين.
وقال الفاسي (ت832هـ) الصفا والمروة في عهده فيقول: «الصفا هو مبدأ السعي، وهو في أصل جبل أبي قبيس على ما ذكره غير واحد من العلماء، ومنهم أبو عبيد البكري والنووي، وهو موضع مرتفع من جبل له درج وفيه ثلاثة عقود والدرج من أعلى العقود وأسفلها». وقال: « المروة الموضع الذي هو منتهى السعي، وهو في أصل جبل قعيقعان على ما قال أبو عبيد البكري، وقال النووي : إنها أنف من جبل قعيقعان».
مظلة من الخشب
وفي عام 1341هـ في عهد الملك الشريف الحسين تم عمل مظلة لشارع المسعى تقي الساعين من حر الظهيرة :يقول عن ذلك المؤرخ با سلامة: « لم يفكر أحد من الخلفاء والملوك ولا أمراء مكة وولاتها، ولا غيرهم من أغنياء المسلمين من أهل اليسار في عمل مظلة تقي المطوفين من حر الظهيرة وضربة الشمس، مع أنه لم يكن ذلك من الأمور البعيدة عن التصور، أو المتعذرة الوقوع..
ومن واجب الإنصاف أن نؤدي لكل ذي حق حقه، وذلك أن أول من فكر في عمل مظلة على شارع المسعى وعملها فعلا هو الملك الشريف الحسين بن علي بن محمد بن عبد المعين بن عون، وذلك أنه في سنة 1339هـ أمر بعمل مظلة على شارع المسعى، وعهد بعملها إلى الشيخ عبد الوهاب قزاز، فقام المذكور بعملها، فكان قوائمها من أساطين الحديد، وسقفها من الخشب على شكل (جملون) مصفح بالتوتوه (الزنك) وقد استفاد من ظلها عموم المطوفين بين الصفا والمروة، وكان ابتداؤها من باب العباس، وانتهاؤها إلى المروة».
ولما رأى الملك عبدالعزيز، رحمه الله، ضيقًا شديدًا على المصلين والحجاج الذين كثر ورودهم عامًا بعد عام، أمر بإجراء الدراسات، ووضع التصاميم لتوسعة المسجد الحرام والمسجد النبوي، فوضعت التصميمات أولًا للمسجد النبوي الشريف، وشرع في بنائه، وبدئ في وضع التصاميم الأولى لتوسعة المسجد الحرام، وتمت التصاميم في أوائل عام 1375هـ بعد وفاته في عهد الملك سعود رحمه الله.
وتولى أمر المملكة الملك سعودرحمه الله في عام 1373هـ عازمًا على تنفيذ أمر والده الملك عبدالعزيز، رحمه الله، في توسعة المسجد الحرام بادئًا بمشروع بناء المسعى.. فحفرت أساسات الجدار الخارجي للمسعى، وبدئ بالناحية الشرقية من جانب الصفا، فشملت القسم الأكبر من المسعى ومن الناحية الجنوبية من جانب الصفا الغربي إلى ما يقابل باب أم هانئ في منطقة أجياد..
وانتهت المرحلة التمهيدية في أوائل شعبان 1375هـ.يقول الكردي أيضًا مؤرخًا هدم البناء الذي على الصفا وقد باشروا في هدم عقد الصفا يوم الثلاثاء 24/10/1377هـ أما الدرجات القديمة جدًّا، والتي كانت مدفونة منذ عصور عديدة، فقد ظهرت عند حفر أرض الصفا، وذلك في رجب سنة 1377هـ، ثم إنهم في شوال من السنة المذكورة أخرجوا الدرجات القديمة، وبنوا فوقها الدرجات الجديدة بالأسمنت، وقد عملوا درجات الصفا بالأسمنت في شهر شوال سنة 1377هـ، وعدد الدرج الجديدة من اليمين (12) درجة، وعدد الدرج من الشمال (11) درجة، وكان مكتوبًا على عقد الصفا في سطر واحد: بسم الله الرحمن الرحيم (إن الصفا والمروة من شعائر الله، فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرًا فإن الله شاكر عليم)، يفصل هذا السطر في الوسط كلمة لفظ الجلالة (الله) »( ) اهـ.
ومن الملاحظ هنا أنه قد أقيم في أول الأمر درجٌ جديد على الصفا وآخر على المروة للصعود والنزول منهما.. وكان ذلك في المرحلة الأولى من المشروع وهي من عام 1377-1381هـ.. واستبدل هذا الدرج فيما بعد بمزلقان على الصفا، وآخر على المروة للصعود والهبوط وبرخام محفور مانع من الانزلاق.
المصدر : صحيفة المدينة | محمد رابع سليمان - مكة المكرمة
0 تعليقات