حتى لا يضيع يوم عرفة سدى

 
يوم عرفة ، اليوم المشهود، يوم الدحر الأكبر للشيطان، أصعب يوم وأحزنه عليه ، وما رؤي الشيطان يوما هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه  كما يرى في هذا اليوم؛ وما ذاك إلا لما يرى فيه من تنزل الرحمات، وفيض النفحات، وعظيم التجاوز عن  الذنوب والهفوات..فأعظم به من يوم، واشدد عليه، لا يفوتك إلا وقد حطت خطاياك وتخلصت من بلاياك، وفزت بضمان من النار والنفاق.
 

و إني لأدعو الله أطلب عفوه        ... و اعلم أن الله يعفو و يغفر
 
لئن أعظم الناس الذنوب فإنها ...  و إن عظمت في رحمة الله تصغر
 
يوم يعطي الله فيه بلا حدود، ويغفر فيه دون أن يتعاظمه ذنب، يعتق فيه الرقاب، ويتجاوز فيه عن الذنوب، ويحط فيه الخطايا، ويقرّب فيه البعيد، ويدني فيه القريب، يأخذ بيد الغريق،ويعفو عن المسيء ، ويكرم فيه الناجح، و لا يهين فيه الراسب، بل يأخذ بناصيته إليه، و يتعهده بنفسه، ويقربه منه..... فقط يريد منه أن يقوم فيسأل، وأن يبدأ فيطلب، وأن يتحرك فيستغفر .
 

   وقف بعض الخائفين بعرفة إلى أن قرب غروب الشمس، فنادى: الأمان فقد دنا الانصراف، فليت شعري ما صنعت في حاجة المساكين ، إذا طلب الأسير من الملك الكريم أمنه أمنه .
 

  كم في هذا اليوم من هنالك مستوجب للنار أنقذه الله و أعتقه ، و من أسير للأوزار فكه و أطلقه .
 

قم ، واهتف مع من هتف :
 
الأمان الأمان وزري ثقيل ... و ذنوبي إذا عددن تطول
 
أوبقتني و أوثقتني ذنوبي ... فترى لي إلى الخلاص سبيل
 
يوم من ظن فيه أن الله يرد فيه مسألة سائل ، أو يحجب فيه التوبة عن نادم فقد أساء الظن بالله، وتألى على مولاه، قال ابن المبارك :  جئت إلى سفيان الثوري عشية عرفة و هو جاث على ركبتيه و عيناه تهملان فقلت له : من أسوأ هذا الجمع حالا ؟ قال : الذي يطن أن الله لا يغفر لهم. و روي عن الفضيل أنه نظر إلى تسبيح الناس و بكائهم عشية عرفة فقال : أرأيتم لو أن هؤلاء ساروا إلى رجل فسألوا دانقا ـ يعني سدس درهم ـ أكان يردهم قالوا : لا، قال : و الله للمغفرة عند الله أهون من إجابة رجل لهم بدانق .
 

  و إني لأدعو الله أطلب عفوه ... و أعلم أن الله يعفو و يغفر
 
  لئن أعظم الناس الذنوب فإنها ... و إن عظمت في رحمة الله تصغر
 
وقف بعض الخائفين بعرفة فمنعه الحياء من الدعاء فقيل له: لم لا تدعو ؟ فقال: ثمّ وحشة، فقيل له: هذا يوم العفو عن الذنوب فبسط يديه و وقع ميتا. لقد تذكر ما أوحش به الطريق بينه وبين ربه، تذكر الحجب الكثيفة ، تذكر الستر الذي أهتكه، والحد الذي تعداه، والأمر الذي تجاوزه، تذكر الآن أن الله كان يراه وهو ينغمس في شهواته ، فحجبه ذلك عن الدعاء، فبشروه أن اليوم يوم العفو ويوم المغفرة ، فخر مغشيا عليه ، لا ندري مات فرقا  وحياء من أخذة الله، أم مات فرحا ورجاء في عفو الله!!
 

مد إلى المنان يد الاعتذار، و قم على بابه بالذل و والانكسار، و ارفع قصة ندمك مرقومة على صحيفة خدك بمداد الدموع و الغزار ،و قل : { ربنا ظلمنا أنفسنا و إن لم تغفر لنا و ترحمنا لنكونن من الخاسرين } قال يحيى بن معاذ : العبد يوحش ما بينه و بين سيده بالمخالفات و لا يفارق بابه بحال لعلمه بأن عز العبد في ظل مواليهم، و أنشأ يقول :
 
قرة عيني لا بد لي منك و إن... أوحش بيني و بينك الزلل 
 
  قرة عيني أنا الغريق فخذ ... كف غريق عليك يتكل
 

استحضر ذنبك، واستحضر معه عفو الرحمن، وقال : اللهم أدخل عظيم جرمي في عظيم عفوك،وقف الفضيل بعرفة و الناس يدعون و هو يبكي بكاء الثكلى المحترقة قد حال البكاء بينه و بين الدعاء فلما كادت الشمس أن تغرب رفع رأسه إلى السماء و قال :  واسوأتاه منك و إن عفوت. فاعزم على توبة تجب ما مضى، وتعصم فيما بقي.
 
وكأني بهاتف الرحمن في هذا اليوم يهتف في الآذان:ويحك قد رضينا منك في فكاك نفسك بالندم و قنعنا منك في ثمنها بالتوبة و الحزن، و في هذا الموسم قد رخص السعر:" من ملك سمعه و بصره و لسانه غفر له"
 
بيد أن لهذه الرحمة موجبات، ولتلك المغفرة عزائم، والموجبات اليوم سهلة يسيرة، فكن في هذا اليوم ممن يجأرون إلى الله بقلوب محترقة و دموع مشتبكة، فالناس في هذا اليوم بين خائف ومحب وتائب وراج وهارب ...خائف أزعجه الخوف و أقلقه ، ومحب ألهبه الشوق و أحرقه،  وراج أحسن الظن بوعد الله و صدقه، وتائب نصح لله في التوبة و صدقه، وهارب لجأ إلى باب الله و طرقه!! فأي واحد أنت!!!
 

   لكن الله عز وجل لا يوزع هباته مجانا ، ولا يعطي رحماته لمن لم يطلبها، والمطلوب منك أن تتعرض لهذه الرحمة وأن تطلب هذه المغفرة فيغمرك الله بها، ولطب المغفرة في هذا اليوم مظاهر ودلائل، لا يخلو حال المشفق على نفسه منها :
 

1- صيام ذلك اليوم ففي صحيح مسلم [ عن أبي قتادة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله و التي بعده ].
 
2- أن يحفظ الإنسان جوارحه عن المحرمات في ذاك اليوم ففي مسند الإمام أحمد [ عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : يوم عرفة هذا يوم من ملك فيه سمعه وبصره و لسانه غفر له ].
 

3- الإكثار من شهادة التوحيد بإخلاص و صدق فإنها أصل دين الإسلام الذي أكلمه الله تعالى في ذلك اليوم و أساسه ،و في المسند [ عن عبد الله بن عمر قال : كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه و سلم يوم عرفة : لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك و له الحمد بيده الخير و هو على كل شيء قدير ] و خرجه الترمذي و لفظه : [ خير الدعاء دعاء يوم عرفة و خير ما قلت أنا و النبيون من قلبي : لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك و له الحمد و هو على كل شيء قدير ]  وسر ذلك أن تحقيق كلمة التوحيد يوجب عتق الرقاب، وعتق الرقاب يوجب العتق من النار كما ثبت في الصحيح : [ أن من قالها مائة مرة كان له عدل عشر رقاب ] و ثبت أيضا : [ أن من قالها عشر مرات كان كمن اعتق أربعة من ولد إسماعيل ] و في سنن أبي دواد و غيره [ عن أنس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من قال حين يصبح أو يمسي : اللهم أني أصبحت أشهدك و أشهد حملة عرشك و ملائكتك و جميع خلقك أنك أنت الله لا إله إلا أنت و أن محمدا عبدك و رسولك أعتق الله ربعه من النار و من قالها مرتين أعتق الله نصفه من النار و من قالها ثلاث مرات أعتق ثلاثة أرباعه و من قالها أربع مرار أعتقه الله من النار ] و يروى من مراسيل الزهري : [ من قال في يوم : عشرة آلاف مرة لا إله إلا الله وحده لا شريك له أعتقه الله من النار كما أنه لو جاء بدية من قتله عشرة آلاف قبلت منه ] .
 

4- كثرة الدعاء بالمغفرة و العتق؛ فإنه يرجى إجابة الدعاء فيه، روى ابن أبي الدنيا بإسناده عن علي قال : ليس في الأرض يوم إلا لله فيه عتقاء من النار و ليس يوم أكثر فيه عتقا للرقاب من يوم عرفة فأكثر فيه أن تقول : اللهم أعتق رقبتي من النار و أوسع لي من الرزق الحلال و اصرف عني فسقة الجن و الإنس فإنه عامة دعائي اليوم .
 
5-  و ليحذر المشفق على نفسه من الذنوب التي تمنع المغفرة فيه و العتق ، فاحذر أن يراك الله وهو يوزع هباته على معصية فتخطئك رحمته.
 
  يا من يطمع في العتق من النار ثم يمنع نفسه الرحمة بالإصرار على كبائر الإثم و الأوزار، تالله نصحت نفسك و لا وقف في طريقك غيرك توبق نفسك بالمعاصي، فإذا حرمت المغفرة قلت : أنى هذا : { قل هو من عند أنفسكم }
 

فنفسك لم و لا تلم المطايا ... و مت كمدا فليس لك اعتذار
 

 إن كنت تطمع في العتق فاشتر نفسك من الله { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم و أموالهم بأن لهم الجنة } من كرمت عليه نفسه هان عليه كل ما يبذل في افتكاكها من النار.
 
 اشترى بعض السلف نفسه من الله ثلاث مرار أو أربعا يتصدق كل مرة بوزن نفسه فضة، و اشترى عامر بن عبد الله بن الزبير نفسه من الله بديته ست مرات تصدق بها ،و اشترى حبيب نفسه من الله بأربعين ألف درهم تصدق بها، و كان أبو هريرة يسبح كل يوم اثني عشر ألف تسبيحة بقدر ديته يفتك بذلك نفسه.
 


من فاته في هذا العام القيام بعرفة فليقم لله بحقه الذي عرفه، من عجز عن المبيت بمزدلفة فليبت عزمه على طاعة الله و قد قرّبه و أزلفه، من لم يمكنه القيام بأرجاء الخيف فليقم لله بحق الرجاء و الخوف،من لم يقدر على نحر هديه بمنى فليذبح هواه هنا و قد بلغ المنى ،من لم يصل إلى البيت لأنه منه بعيد فليقصد رب البيت فإنه أقرب إلى من دعاه و رجاه من حبل الوريد.

المصدر : موقع اسلام ان لاين بقلم : حامد العطار ( عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين).