مصارعة السومو في الدفاع عن بئر طوى

كانت بئر طوى أول الحاضرين باسمها ورسمها وتاريخها العريق، فيما مبناها العتيق يقف وحيدا في ظلام دامس، على بعد نحو عشرة أميال إلى الغرب من خيمة النقاش في معهد أبحاث الحج، ينتظر في صمت قديم نتائج جولة نقاشات ساخنة حول أصله وفصله ومشروعية وجوده في الوادي المقدس طوى إثر دراسة تاريخية لإحيائه من جديد نفذها فريق علمي يتقدمهم عميد شؤون المكتبات في جامعة أم القرى وأستاذ التاريخ والآثار الدكتور عدنان بن محمد الحارثي الشريف خلص فيها إلى أنه لم يثبت أن البئر هي عين مغتسل الرسول صلى الله عليه وسلم عشية فتح مكة في العام الثامن للهجرة، إلا أن الأستاذ في قسم الجغرافيا في جامعة أم القرى والأستاذ الزائر في مركز التحليلات الجغرافية في جامعة هارفرد الأمريكية الدكتور معراج نواب مرزا نفى ذلك، مرجحا أنها هي عين البئر، استنادا إلى صور وخرائط وأدلة بحث علمي وتواتر محلي لأهل مكة المكرمة.

وبئر طوى ليست أشهر آبار مكة بعد بئر زمزم المقدس فحسب، بل ينظر إليها أهالي البلد الأمين على أنها صحابي جليل يروي لمن تفيأ ظلالها، حقائق قصصها القديمة مع سبعين نبيا أناخوا مطاياهم في حماها الطاهر، وسقايتها لجيش فتح مكة وتشرف مائها بغسل جسد آخر الأنبياء مرارا وتكرار في كل مرّة عاد فيها يتيم مكة إلى مسقط رأسه الشريف صلى الله عليه وسلم. في السنتين الأخيرتين، أحاطت قرون الحفارات والبلدوزرات البئر العتيقة من كل جانب. وظل الهدم والطمس والإزالة تعمل في كل جبل وبيت وشجر حولها حتى عاد محيطها أبطح كما كان في خلقته الأولى. كانت البئر تبلّل الأرض من حولها خوفا من قطيع المجنزرات الهادرة بوعيد العدم والفناء

ولولا مدد من الله وعنايته، لبات مآل بئر طوى، كما نال أكثر مواقع مكة النبوية في وادي إبراهيم، أثرا بعد عين حتى تقوم الساعة!

سومو مكيّة!

كانت ورشة عمل مناقشة دراسة تاريخية عن إحياء بئر ذي طوى، أشبه بحلبة مصارعة يابانية تقليدية، تظهر الاحترام والتقدير لكفاءة الخصوم، وثقل معلوماتهم وحججهم الدامغة، في تدافع مضن بين كرّ وفرّ ليبقى صاحب الدليل العلمي الأقوى والحجة البيّنة الغالبة، إلى حين ظهور بطل آخر يملك الكفاءة والدراية وحبس الأنفاس! وقف الحارثي كأبطال رياضة السومو متحفزا في زاوية التاريخ، ينثر ملح نتائج دراسته وبحثه في وجه ما وقر في قلوب كل الناس وصدقوا أنها حقائق ثابتة لا ريب فيها
في المقابل كان مرزا يقف بقامته العلمية المشهودة في زاوية الجغرافيا يتلو تعاويذه وهو يحمل حزام الأفضلية في علومه التي لم ينازعه عليها أحد بين أخشبي مكة
في الساعة الثامنة والنصف من مساء الثلاثاء 21 صفر 1435، كانت ملامح الحارثي رئيس قسم الآثار في جامعة أم القرى، بالكاد تظهر وهو يقف تحت ضوء خافت على منصة خيمة اللقاءات العلمية في مقر معهد خادم الحرمين الشريفين لأبحاث الحج يستعرض على لوحة مضاءة شرائح عرض تلخص دراسته الجديدة.

كان واضحا أن الباحث الدؤوب في تاريخ مكة المكرمة وآثارها، استعد جيدا لورشة عمل ساخنة، وجولات نقاش حامية الوطيس مع نظرائه المتربصين لكلّ كلمة سيتفوه بها، ليصطادوا له أي خطأ أو هفوة أو غفلة. كانت عينا الحارثي مرهقتين وتلمعان خلف زجاج إطار فضي صقيل وهو يرمق أثر معلوماته المحققة، واحدة تلو أخرى، على مسامع الحضور إلى أن أعلن في أسى ظاهر: أيها السادة؛ للأسف الشديد أبلغكم أن بئر طوى الحالية ليس لها أصل يؤكد أنها مغتسل النبي صلى الله عليه وسلم ولم يثبت ذلك عندي بالدليل العلمي في شكل قاطع!كادت يدا مرزا تلامس سقف الخيمة من فرط احتجاجه على هذه النتيجة الصادمة. وكان أول من رمى قفازه على حلبة النقاش وقام بالردّ المدعوم بالنصوص التاريخية وخرائط المواقع الجغرافية والمصورات الجوية القديمة والحديثة في شكل أراح غالبية الحضور الذين كانوا يخشون أن تزال بئر طوى استنادا إلى طرح الحارثي.

الشريف الحارثي قامة علمية مرموقة، وهو باحث جاد أصدر العديد من الكتب والدراسات والأبحاث عن آثار مكة وشواهدها التاريخية. يعتنق دوما في منهجه ومسلكه العلمي صرامة العالم الجاد وبذل الجهد المخلص للوصول إلى حقيقة المعلومة والتثبت منها ثم عرضها كما هي بغض النظر عن أثرها وفعلها لدى المتلقين. والحق يقال أنه طوال 30 دقيقة من عرضه لدراسته التاريخية المثيرة لم يبد لوهلة أنه يسرد رأيا خاصا به بقدر ما ظهر حرصه على توثيق كل كلمة ومعلومة من مظانها في بطون عيون أمهات كتب الفقه والحديث والسيرة والرحلات فضلا عن أسفار تاريخ مكة والمراجع المحققة لآثارها وأوابدها الخالدة. في المقابل كان مرزا راسخا في العلم كعهده دوما في كل ما يتعلق بتاريخ وجغرافيا أم القرى، وقدم أدلة وشواهد لا يمكن غض الطرف عنها واعتبارها أقرب إلى الصواب بما قدمه من إسقاط للمواقع التاريخية على معايير الجغرافيا الثابتة والصارمة، مستندا إلى خزائن ذاكرته ومذكراته التي بذل عمره في جمعها وتوثيقها في كتب وأطاليس هي الأكثر اعتمادية في العصر الحديث.

الاستنتاج أم الأدلة العلمية؟

سارع عميد معهد أبحاث الحج في جامعة أم القرى الدكتور عبدالعزيز السروجي، إلى التقاط المايكروفون ليوضح للحضور قبل بدء المناقشة، تحديد المعايير العلمية لها لإثراء النقاش وتبادل المعلومات والمعارف بين الجميع. وقال: من المهم أن نتفق أولا على منهجية في النقاش والردّ على ما طرحه الحارثي. علينا أن نختار أولا: هل نعتمد إثبات آثار النبي صلى الله عليه وسلم بالاستنتاج والمنطق والعواطف، أم ننحاز إلى الأدلة وفق المنهج العلمي؟ لا بد هنا من اختيار واحد؛ حتى يكون حديثنا مبنيا على قاعدة مشتركة. وأضاف: إذا كان الحديث سيكون على الاستنتاج فسندخل في جدل ونقاش عقيم لأن الاستنتاج البشري يختلف من شخص لآخر كونه مبنيا على معطيات مختلفة، وسيقودنا إلى نتائج مختلفة تماما
لكن إن كنا نبني على أدلة علميّة، فحتما سنصل إلى نتيجة واضحة للجميع. فالإثبات والنفي لآثار النبي صلى الله عليه وسلم يفترض أن يكون هما مشتركا وهدفا واحدا للجميع هنا.

نويلاتي: تحديد الخيزران واختبار عمر البئر

قال صاحب دار المكيّة للنشر الباحث غسان نويلاتي: أولت السيدة الخيزران أم الخليفة العباسي هارون الرشيد اهتماما كبيرا بأماكن النبي صلى الله عليه وسلم في مكة المكرمة، وأقامت عليها شواهد ومساجد، ومن بينها بئر طوى بحسب ما أثبته المؤرخ الصباغ، وهو قبل الأزرقي بنحو مئة عام، وأكدّ أنها جعلت مسجدا أيضا على بئر طوى. وبالتأكيد كان للخيزران لجنة شرعية وعلمية حددت لها بدقة مكان البئر لتبني عليه مسجدا. كما فعلت في غيره من الأماكن النبوية.

وأضاف مستطرداً : لكننا نستغرب مع المحاضر (عدنان الحارثي) لماذا لم يرد ذكرها في مصادر الدراسة. وطالب النويلاتي بأن يقوم المعهد باختبار البئر والكشف عليها جيولوجيا لتوضيح ما إذا كان بناء هذه البئر إسلاميا مبكرا أو جاهليا قبل الإسلام، سائلاً: لماذا خصت هذه البئر باسم طوى دون غيرها من الآبار المحيطة؟وردّ الحارثي: نعم عمارة الآبار لا تتطور بشكل سريع. وأتفق معك بوجوب اختبار البئر وإخضاعها لمشروع دراسة معمارية، ولكن إذا ثبت أن بناء هذه البئر كان جاهليا، فهل هذا يعني أن الرسول صلى الله عليه وسلم اغتسل فيها، وأين الدليل على ذلك؟.

ساعاتي: طوى مقدس منذ القدم

قال أستاذ التاريخ في جامعة أم القرى الدكتور فوزي ساعاتي: لو تتبعنا مسير الرسول صلى الله عليه وسلم مع جيش الفتح من مرّ الظهران إلى وادي ذي طوى، لوجدنا أن هذا المكان موجود قبل الإسلام وهو مكان مقدّس منذ القدم
مشيرا إلى أنه يجب التحقق من يوم دخول الرسول صلى الله عليه وسلم مع جيش الفتح إلى وادي ذي طوى وأناخ واغتسل وبات فيه، مرجحا أن عشية يوم فتح مكة كان يصادف يوم الجمعة وفق دراسة قام بها قبل نحو خمس سنوات.

جمال: غياب الدليل لا يسقط التواتر

أوضح الكاتب الإعلامي الدكتور فايز صالح جمال أن هناك نصوصا تشير إلى أن هذه المنطقة توجد فيها آبار، وهذه نتفق فيها مع المحاضر (عدنان الحارثي) بإشارته إلى بئر ابن عنبسة، وهذه إشارة إلى أن هناك نصوصا تعزز وجود بئر اغتسل فيها النبي صلى الله عليه وسلم في فتح مكة والعمرة وحجة الوداع وغيرها.

وقال: لا يمكن للنصوص التاريخية أن تعطينا على وجه التعيين لمكان ما مثل إحداثيات الجي بي إس الآن. وعليه لا بد من أن نأخذ في اعتبارنا مسألة التواتر المحلي عند أهل مكة لأنها لم تنقطع من سكانها. وأشار إلى قول للعلامة المكي الدكتور عبدالوهاب أبو سليمان: إن المثبت مقدم على المشكك فإذا كان مطلوبا منا أن نثبت أن هذه البئر هي التي اغتسل فيها النبي صلى الله عليه وسلم، ففي المقابل نحن نطلب إثباتا صريحا على أن هذه البئر ليست بئر طوى
وتابع جمال: علينا أن نضع في الاعتبار أن الصحابة والأمويين والعباسيين وغيرهم كانوا حريصين على تتبع مواقع الرسول صلى الله عليه وسلم، فهل جاءت فترة غاب عن الناس مكان ذكرته الأحاديث الصحاح؟ إننا في حاجة إلى ربط الأحداث بعضها ببعض لنصلّ إلى نتيجة وفق معطياتنا من نصوص وتواتر وغيرها حتى لو أخطأنا في النتيجة، فلا أرى مشكلة بعد أن صدقت النيّة وبذل جهد أكبر خدمة لتراث النبي صلى الله عليه وسلم.

وردّ الحارثي قائلا: أبصم بالعشرة على كلام ومنهج أستاذنا الدكتور أبو سليمان الذي يؤكد منهجه على التواتر بالدليل العلمي وهو ما أسعى إليه وكوني لم أثبت حقيقة مكان اغتسال النبي صلى الله عليه وسلم في ذي طوى، فهذا لا يعني أنني أنفي وجود البئر في منطقة الوادي.

طيب: الماء سرّ ذي طوى

دعا الباحث والموجه في قطاع التربية والتعليم بجدة، ممدوح طيب، إلى بذل المزيد والتوسع في التثبت والمطالعات والمراجع المتنوعة بدلا من حصرها في سبعة أو ثمانية مراجع، وقال: يجب ألا ننسى أن بئر طوى الآن على وشك أن تزال، وهناك تعاطف من الناس على بقائها، فما بالك يا دكتور عدنان الحارثي لو عرفوا أنها بلا أساس توثيقي، استنادا إلى طرحكم، ثم يثبت بعد فترة من إزالتها أنها البئر الصحيحة؟ كلّ ما أخشاه أولا أن يُفهم من طرحكم أنه حكم نهائي بإعدام البئر القائمة، وهناك من ينتظرون مثل قولك ومن شخصية علمية اعتبارية مثلك، ليسارعوا إلى تنفيذ حكم الإعدام، وإزالة بئر طوى.
وتابع: نحن لا نقصد المرفق نفسه ولا موقع البئر الحالية، وإنما نقصد بالتحديد الماء الذي له خصوصية فالنبي صلى الله عليه وسلم اغتسل في ذي طوى أي بالماء الذي يجري تحت الأرض ويمرّ بعدة آبار كانت في المنطقة والآن في وادي ذي طوى لا توجد إلا هذه البئر القائمة في المنطقة فإذا كان مجرى الماء واحداً، فهل يأخذ الحكم بأنه نفس الماء الذي اغتسل فيه النبي صلى الله عليه وسلم؟ هنا نحتاج إلى آراء خبراء في علوم الأرض لتحديد مصادر المياه، وما إذا كان لها مجرى واحد أم أكثر، لأن هدفنا الماء في الأول والأخير.

وردّ الحارثي قائلاً: المكان الذي ينبغي الاعتناء به هو وادي ذي طوى كله، وليس البئر الحالية، مع تأكيدي أنها جزء من الوادي وينبغي أن يعرف الناس أن «ذي طوى» هو المكان الذي دخله الرسول صلى الله عليه وسلم وأناخ فيه واغتسل فيه، وكذلك فعل الخلفاء والصحابة والملوك، إذا قدموا حاجين إلى مكة كانوا يبيتون هنا وهذا تؤكده نصوص ثابتة وعلينا أن نحتفظ بمبنى البئر الحالية كدلالة تاريخية، ولا ننسبها للنبي صلى الله عليه وسلم، دون دليل قطعي.

صيرفي: المغتسل يثري التطوير

رأى رجل الأعمال المهندس أنس صيرفي أن الورشة لم تكشف عن تاريخ بئر طوى فحسب، بل عينت مكان مغتسل النبي صلى الله عليه وسلم وأيضا مسجده في طوى وحددت ملامح الوادي في صورة يجب الحفاظ عليها لإعادة إحيائها كجزء أصيل من تاريخ مكة المكرمة، وسيكون لها مردود إيجابي روحيا واقتصاديا في مشروع التطوير.

وسأل: إذا لم يصل الباحث (الدكتور عدنان الحارثي) إلى تحديد موقع البئر ومغتسل النبي صلى الله عليه وسلم وإثبات مكانه، فكيف يمكن تحديد أصغر حيّز ممكن (5 آلاف متر مثلا) لمكان البئر في المنطقة التي تتجاوز 4 كيلو مترات مربعة؟.

وأجاب الحارثي: منطقة دخول النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح كانت من ناحية ريع الكحل (الثنية الخضراء) ورجع إلى ذي طوى ودخل صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع من ناحية الحجون إلى ذي طوى وبات هناك، لأن النصوص التي تتحدث عن المسجد أنه في الطريق إلى الحصحاص (باتجاه أبو لهب الآن) والمسجد كان في ربوة بات عليها النبي صلى الله عليه وسلم، وانطباعي عن مكان البئر أنه كان في اتجاه أبي لهب أيضا.

برقة: كتب المناسك حددت البئر

تمنى الباحث والخبير في المواقع والآثار النوبية الدكتور سمير برقة على الدكتور عدنان الحارثي أن يطلع على كتب الفقهاء لأن الإمام النووي وابن قدامة بعد أن ينتهوا من كتب المناسك يخصصون بابا عن الأماكن التي يستحب للحاج أو المعتمر الوقوف عليها في مكة، والإمام النووي ذكر 17 موضعا في مكة، وللأسف لا يحضرني الآن إذا ما كان بئر طوى من بينها أم لا، لذا أتمنى الرجوع إليها، فلربما وصلنا إلى نتيجة مشتركة.

وردّ الحارثي قائلا: الإمام الفاسي ذكر كل الأماكن التي يستحب زيارتها في مكة في زمنه، فلماذا لم يذكر هذه البئر بينها؟ شخصيا لا أملك الجرأة أن أقول شيئا لم يثبته الإمام المؤرخ الفاسي.

صور من ورشة العمل: