الأمير سلطان والشاعر طاهر زمخشري
في عصر أحد أيام صيف عام 1396هـ هاتفني الأديب والشاعر الكبير الأستاذ طاهر زمخشري رحمه الله، وطلب مني الذهاب إليه في منزل ابنته السيدة سميرة، فتوجهت إليه على الفور، ولما قابلني قال لي: «أبغاك تأخذني الآن للطائف لأقابل سمو الأمير سلطان بن عبد العزيز لأمر هام» فقلت له: حاضر.. ولكن هل من الممكن أن أعرف سبب المقابلة مع سموه؟ فقال لي: جاءني عمدة الشرفية قبل قليل، وأخبرني أنه صدر أمر الإمارة إما بدفع مبلغ 4500 ريال أو السجن، بسبب دين لقيمة تذكرة سفر من جدة إلى تونس، وقد استلفتها من مدير مكتب الخطوط السعودية في شارع الملك عبد العزيز، منذ عدة أشهر، ولم أستطع تسديدها حتى الآن.
في الطريق إلى الطائف حكى لي الأستاذ طاهر قصة تذكرة السفر، فقال: إن مطربا سعوديا ناشئا (لن أذكر اسمه) رغب أن يسافر معي إلى تونس في إحدى رحلاتي المتكررة لهذا البلد المضياف، فاستلفت قيمة تذكرته، وقد تكرر طلب تسديدها فلم أستطع السداد لظروفي المالية (كان تقاعده وقتها 500 ريال).
وصلنا إلى الطائف عقب صلاة المغرب، واستفسرنا عن عنوان قصر الأمير سلطان بن عبد العزيز وزير الدفاع والطيران، وكان من المعتاد أن القيادة والوزارات تعمل من الطائف خلال أشهر الصيف، وعرفنا أن قصر سموه رحمه الله في حي الخالدية، وعندما وصلنا قام الأستاذ طاهر زمخشري بتعريف نفسه للضابط القائم على حراسة مدخل القصر، فرحب به الضابط، وقال لنا: تفضلوا سمو الأمير في صالة العشاء مع ضيوفه، وبعد أن شكر الأستاذ طاهر زمخشري الضابط الخلوق، توجهنا إلى حديقة القصر التي كانت مجهزة بالمقاعد للاستراحة وتناول القهوة والشاهي بعد العشاء، وما هي إلا دقائق حتى أقبل سموه هاشاً باشاً كعادته، ويصحبه كوكبة من الأمراء والمسؤولين، وأذكر أنني رأيت معهم الأستاذ عبد العزيز القريشي محافظ مؤسسة النقد السعودي آنذاك وقد جلس على يسار سموه.
وقف الأستاذ طاهر زمخشري وسط المجلس، وتوجه بالحديث لسمو الأمير سلطان قائلا: «يا سمو الأمير أنت تعرفني؟ أنا طاهر زمخشري» فابتسم الأمير قائلا: أعرفك، فقال الزمخشري: لو طلبت من سموكم تذاكر لي ولعدة أشخاص لأسافر لتونس فهل تعطيني؟ فهز سموه رأسه بالإيجاب، فأكمل الأستاذ طاهر: فما بالكم سيدي أن شرطة جدة بموجب تعليمات الإمارة تطالبني بسداد قيمة تذكرة استلفتها من مكتب الخطوط السعودية لفنان سعودي أردت مساعدته للسفر إلى تونس لتسجيل بعض اغانيه والتعرف على الوسط الفني في تونس، وعلمت أنه إن لم أسدد قيمة التذكرة سأسجن، وأنا الآن لا أملك قيمة التذكرة.. ضحك سمو الأمير رحمه الله، ووجه سموه الاستاذ مصطفى إدريس قائلا: يا مصطفى اتصل بمنصور الشعيبي (الذي كان وقتها قائداً لمنطقة جدة العسكرية برتبة فريق) واطلب منه أن يبلغ مدير شرطة جدة بإلغاء البلاغ ضد الأستاذ طاهر زمخشري، على أن يسدد المبلغ المطالب به من حسابي..
شكر الأستاذ طاهر زمخشري سمو الأمير سلطان على دعمه وعطفه، واستأذن على الفور، وعدنا إلى جدة بعد دعاني بابا طاهر للعشاء في أحد مطاعم برحة ابن عباس.
هذا اللقاء الذي لا يزال ماثلا في ذاكرتي يدل أولا على كرم سمو الأمير سلطان بن عبد العزيز رحمه الله الذي عُرف عنه حبه للخير، حتى لقب بـ«سلطان الخير»، كما يدل على مكانة الأستاذ شاعرنا طاهر زمخشري عند قادة بلادنا وتقديرهم لشخصه، وهو الذي كان أحد ثلاثة أدباء وشعراء اختيروا لنيل جائزة الدولة التقديرية في الآداب عام 1405هـ، والتي تم الاحتفال بها في 8 شعبان عام 1405هـ بحضور خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز رحمه الله.
بعدها بأيام بعد أن حصل الأستاذ الزمخشري على الجائزة احتفلت مدينة جدة بالشاعر الكبير في حفل رعاه أمين جدة وقتها المهندس محمد سعيد فارسي نيابة عن صاحب السمو الملكي الأمير ماجد بن عبد العزيز رحمه الله أمير منطقة مكة المكرمة، وحضره حشد كبير من الأدباء والشعراء والإعلاميين والفنانين، وكان سمو الأمير سلطان بن عبد العزيز رحمه الله قد كلف الفنان محمد عبده بتسليم الزمخشري شيكاً بمائتي ألف ريال هدية للشاعر الكبير، وهو أمر ليس بالمستغرب على كرم سموه رحمه الله وحدبه على أدباء وشعراء بلادنا، وقد أعلن مذيع الحفل وقتها عن هذه الهبة الكريمة في ختام الحفل.
يقول طاهر زمخشري:
على الذكرى أعيش مع الأماني
وأنثر ذوب نفسي في الأغاني
نقلا عن صحيفة الجزيرة الأحد 22 ديسمبر 2024