رمضان في مكة بعين الماضي

رمضان شعيرة من الشعائر الإسلامية، ومجال لتزكية النفس واستقامة اعوجاجها، وسبيل لتحقيق التواصل الاجتماعي، ولا شك أن المسلمين من كل بقعة يتوقون إلى التواجد بمكة المكرمة من كل حدبٍ وصوب في هذا الشهر الفضيل؛ رغبة منهم في الجمع بين فضل الزمان وعظمة المكان، من هذا المنطلق رغبت  بالكتابة عن خير الشهور في أم القرى مسقط رأس رسولنا الكريم -صلى الله عليه وسلم-، وأحب البقاع إلى قلبه؛ لأنقل إليكم مشاعر خالجت قلوبًا نشأت في ربوع مكة، وشهدت ثقافاتها، ونهلت من خيراتها، وعاشرت أهلها، وخدمت قاصديها، شخصيات رأت مكة في رمضان بعين الماضي، وجالست مجتمعًا من الرعيل الأول قد عُرف عنه دماثة الأخلاق، وحُسن الجوار، ولين الجانب، في زمنٍ اتسم بالبساطة، والمرونة، والاستقرار.

تسامرت مع والدتي السيدة: خديجة عبد الهادي الليلة الماضية، وقد كانت تقطن في "المسفلة بحارة الوزان"، فسألتها: هل رمضان أمس بالنسبة إليكِ هو رمضان اليوم يا أمي؟! وإن كان لا فما الذي اختلف في ذلك الوقت عن هذا الحين؟! أجابت وعيناها تملؤها الحنين إلى تلك الأيام: بطبيعة الحال الفوارق كثيرة، وجُلها هو فقدي لأبي الشيخ: عبد الهادي محمد عمر -يرحمه الله-، الذي سبق وتتلمذ على يد الشيخ: حسن مشاط، والسيد: علوي مالكي، وغيرهم، حيث كان يقضي نهار رمضان في التدريس في المدرسة الصولتية، وفي عشية رمضان يؤمُّ المصلين لصلاة التراويح، كما أنه كان لا يتوانى عن تفقُّد أحوال ذويه وجيرانه، إلى جانب إلقاء الدروس لنا في مكتبته الخاصة؛ لتهذيب ذواتنا وتقويم سلوكنا، وفي العشر الأواخر نختم القرآن ونقرأ دعاء الختم.

وواصل الدكتور السيد: سمير أحمد برقة -مطوف، ومهتم، وباحث في معالم السيرة النبوية والتاريخ المكي- حديثه حول رمضان في مكة سالفًا من عام: (1380هـ – 1400هـ) وزودني بالكثير من التفاصيل التي اقتصرت على ذكر بعضها بحسب ما يقتضي المقام، بقوله: جرت عادة المكيين في رمضان الإفطار في المسجد الحرام، وكانت العادات بسيطة في ذلك الوقت، أذكر وأنا من عوائل "الشامية" حيث كانت الشامية مسقط رأسي وحارتي، وأنا معني بكتابة تاريخها، وأسرها، وعوائلها، حيث كان لنا في الشامية بيت كبير، ووالدي: السيد أحمد برقة -يرحمه الله- رئيس نادي النمور الرياضي، وموظف في الدولة بوزارة المالية إدارة المحفوظات المركزية، وبيوت آبائي وأجدادي كانت في "الباسطية"، و"قاعة الشفا"، وقد كنت أسمع الأسماء الرنانة الكبيرة في مكة، منها: سويقة، وهو أشهر سوق في مكة، ويمتد تاريخه لأكثر من ألف عام، وباب زيادة، وباب الباسطية، وباب القطبي، وباب الدريبة في شمال المسجد الحرام، وغيرها، هذه الأسماء كان لها وقع كبير في نفسي، وكانت الشامية إطلالتها مباشرة على المسجد الحرام، أما العادات السائدة قديمًا فقد كان الكثير من الأُسر المكية لها جلسات سفر وموائد رمضانية داخل المسجد الحرام ويخدمهم الصبيان، ومجلس عمي السيد: علي برقة تحديدًا خلف "حِجر سيدنا إسماعيل" جهة "دار الندوة" عند المقام الحنفي، وكنت أنا، ووالدي، وإخواني نأتي إليه ونحن صغار، وأشاهد صبيان عمي وهم يأتون بالشوربة، والسمبوسة، والغُريبة، وما إلى ذلك، وأشاهد أيضًا والدي وعمي يسلمون على الأمير: عبد الله الفيصل، والشيخ: محمد سرور صبان، والسيد: أسعد تونسي، والسيد: بكر تونسي، والشيخ: عبد الله عريف، والشيخ: هلال شيت، ومجموعة كبيرة يجلسون في تلك المنطقة، ووصف شعوره وهو يستذكر تلك المظاهر بأنه لا يمكن أن ينساها.

وأضاف أيضًا أن المظاهر مختلفة في رمضان بمكة، من بينها "المسحراتي" الذي كان يردد "وحِّد الدايم"، والبسطات التي تبيع الفول، والترمس، والمنفوش، والكبدة، والقشطة، والخياط الأندنوسي الذي كان يقوم بخياطة ثيابنا استعدادًا لعيد الفطر، والخياطة كانت فيها ثنية في الأكمام وأسفل الثوب بمقدار بسيط؛ بحيث يتسنى لنا فكها حين نكبر، بالإضافة إلى وجود المركاز لدى بعض الأُسر، أو الحارات عمومًا يجتمع فيها الناس بعد صلاة التراويح، واختتم حديثه حزينًا؛ بسب اندثار تلك المظاهر، واختلاف العادات، شاكرًا دعوته للمشاركة في هذا الموضوع.

ووافتنا الأستاذة الدكتورة: أحلام علي أحمد أبوقايد، من قسم التاريخ والآثار بجامعة أم القرى قائلةً: رمضان روحانية عظيمة؛ فهو من الشهور التي لا تكاد الذاكرة تنفك فيها من تلك الذكريات الجميلة التي كنا نعيشها في "حارة القرارة"، حيث كانت الأسر تفرح كثيرًا لقدومه بالابتهاج وتبادل الزيارات بعد صلاة التراويح والتسارع لإذاقة كل جار ما لذ وطاب من سفرة إفطاره.

وبالنسبة لعائلتي العزيزة فقد كنا نجتمع على سفرة الإفطار، وكان الوالد - يرحمه الله - حريصًا على أن نبدأ فطورنا فقط ببعض التمرات ورشفات من ماء زمزم المبخر طبعًا؛ ليقينه الشديد أن في ذلك إراحةً للمعدة التي كانت صائمة على مدى ساعات طويلة، ثم نتوجه لأداء صلاة المغرب، يؤمنا فيها الوالد، وبعد ذلك نفرش سفرة الإفطار بما لذ وطاب مما كانت تعده الوالدة - يحفظها الله -، ونهب أنا وأخواتي لمساعدتها في المطبخ، ثم وبعد الانتهاء نشرب الشاي ونتجهز للتوجه للحرم المكي الشريف لصلاة التراويح في الحرم، كان على بُعد خطوات قليلة جدًّا من المنزل، فنسير بأقدامنا من القرارة مرورًا بـ"مقرات الفاتحة" وصولًا إلى "المدعى" لنصل الحرم؛ تغمرنا السعادة وترتسم على شفاهنا الابتسامات والأحاسيس الجميلة بقدسية هذا الشهر المبارك، مع بقية أبناء وبنات الجيران ذهابًا وإيابًا، وبعد انقضاء صلاة التراويح نتبادل الزيارات، وهكذا حتى نهاية الشهر الكريم، نسأل الله تعالى أن يتقبل منا الصيام والقيام، وصالح الأعمال، وأن يعيد علينا الشهر الكريم أعوامًا عديدة وأزمنة مديدة. اللهم آمين.

وتابعت الأستاذة: الأنور المطرفي، مؤسسة متحف "دار الأولين" بقولها: عادات أهل مكة كثيرة قبل شهر رمضان والاستعداد له، وهذا الحديث قبل 50 سنة عشته بحارتي في "العتيبية"؛ فقد كنّا نقوم بشراء مقاضي ومؤونة الشهر وترتيبها في الدواليب أو الثلاجات أول ما وُجِدت الثلاجات آنذاك في المجتمع، وشراء هدايا للأهل من: بخور ومستكة؛ لتبخير كاسات الماء والعصير، وتبادل التهاني والتبريكات، وأول يوم في رمضان يكون الفطور في البيت الكبير، وكل أسرة تحمل معها عددًا من أطباق الطعام، وتبدأ النساء بتجهيز سفرة للرجال وسفرة للنساء، ويجتمعون حولها بالدعاء والذِكر حتى ينطلق الأذان ومعه مدفع رمضان الذي يُسمَع بكل أحياء مكة، ونبدأ بتناول حبات تمر أو رطب مع شرب قليل من زمزم تأسيًا بسنة المصطفى عليه السلام.

كما يطيب لي أن أختتم المقال بأبيات كتبها السيد: معتوق بن مهدي يماني -أبو هاشم-، وهو من أبناء "المسفلة"، ومن المحبين لتاريخ وتراث مكة:

قــدَّس الله ثــراكِ يا مكـة      فبـتِّ قبـلة الدنيـا لزامـا

حباك الله قدرًا واصطفاكِ    لنور الحق يا مهوى الغراما

لعمري جوارك نِعم الجوارُ    يُعز الجار فيك ما استقاما

ويندب حظه من عقَّ فيك    وينفيه الثرى إن ما استداما

ويبقى رمضان في مكة أنموذجًا فريدًا، له طابع خاص، ومكانة مختلفة، وروحانية عطرة، والشكر لكل من شاركنا ذكرياته، وأثرى المقال، ورِحم الله من رحل، وأمدَّ في عمر من بقي، ورزقنا الله أدب الجوار، وختم لنا بقبول الأعمال.